Canalblog
Editer l'article Suivre ce blog Administration + Créer mon blog
Publicité
دار المثقـف الاسلامـي
14 juin 2012

حــداثة من رمــال

بسم الله الرحمن الرحيم

بقلم: محمد الهداج

 

استغربت أن تكون مجلة موضوع ندوة فكرية قرأت تفاصيلها على موقع "الشهاب" بالشبكة الدولية، وأعترف أنني لم أكن أعرف عنها إلا ما قاله ضيوف الندوة، الذين خصوا المجلة بوابل من التقريض الذي تناول استقلاليتها وعمق الدراسات المنشورة على صفحاتها وجرأة بعض أقلامها ومعاصرتهم وجدة خطهم،

فقلت ربما كانت هذه المجلة من العلامات الفكرية في الأمة كما كانت في أيام مضت مجلة "الأمة" القطرية الموؤودة، أو مجلات غربية كانت تدشن لخط علمي أو فكري ك "الأزمنة الحديثة" الفرنسية أو "طبيعة" الإنجليزية.

ولم يطل أمد تخميناتي، فقد وجدت عددها الأخير في إحدى المكتبات فاقتنيت ما ظننته "كنزا"، والعهدة على على الإخوة في الندوة، وكان من "حسن" حظي أن كان من كتبة العدد بعض ممن نوه حضور الندوة بهم وبـ "تجديديتهم" وجرأتهم، ومنهم السيد مصطفى ملكيان الذي يبدو أنه من هيئة تحرير المجلة(1) وكانت ثلاث مداخلات في الندوة حبته بأوصاف الجرأة والإثارة والنقد.

وما أن افتتحت القراءة في كلمة التحرير التي عنون لها السيد ملكيان بـ"رهانات الحداثة" حتى شككت في أن ما قرأته في الندوة كان عن غير هذا الرجل وعن غير هذه المجلة، ولكن لامجال للشك، فالندوة التي قرأت نصها على صفحات "الويب" أعيد نشرها بالمجلة "المجددة في "فلسفة الدين" و"الهرمينوطيقا" والمخلخلة للبنية السائدة للتفكير و المدمرة للنسق السلفي السائد"(2).

وقد حملني على خط هذه الأسطر في "التعليق" على مقال مجددنا ملكيان هو أن الندوة نظمها إخوة في المغرب بلغني عنهم ما يثلج الصدر من حس نقدي واجتهاد فكري دفعوا على ما يبدو ثمنا له "الفصل" من تنظيم معروف. ولكن أن تكون "الوجهة" الدعاية لإسفاف من "الفكر" كالذي قرأت ولمجلة هي على الحقيقة عمل متواضع لا توحد مضمونَه فكرة ناظمة ولا خطابَه ميزة فارقة(3)، أمر محزن حقا، وإن ما يكرسه خطاب الندوة هو نفسه ما اعتقدت منظميها "يحاربونه" من "تفكير" بالأشخاص والهيئات، وإن القول بانفتاح البعض على مناهج الغرب لمجرد "حشرهم" في خطاباتهم لكل ما ينتهي بـ"لوجيا" لايعني اسيعابهم لها ولا مناسبة أقوالهم لمقامات استحضارها(4)، ولا أحد سيحكم بأن من يرقع جلبابه البالي بأثواب من "الكشمير" أو "البلودجين" قد أصلحه أو جدده.

"حداثة" السيد ملكيان :

يبدأ ملكيان حديثه بالدعوة إلى فهم جديد للدين يسميه "الروحية"(5) لأن "الإنسان الحديث"(6) ليس في مقدوره تلقي الدين بطريقة الأقدمين(7) ثم يقدم تعاليم "روحيته" التي يقبل بكونها لب الدين وجوهره، ليس بوصفها دعوى يقيم الدليل عليها(8) ولكن بوصفها ضرورة لا يدركها الإنسان إلا إذا استشعر أمرين: الحاجة إلى الدين والإحساس بأن الدين بمفهومه "التقليدي التاريخي الأصولي" لا ينسجم مع عناصر الحداثة التي لا يمكن اجتنابها ثم يخلص إلى أن الروحية هي فهم جديد للدين لايتعارض مع الحداثة أو بعبارة يفهمها "التقليدي التاريخي" أن الروحية هي الدين مضافا إليه أصل جديد من أصول الفقه والتوحيد معا وهو الحداثة. وإذا تعارض نص أو شعيرة أو مبدأ من الدين مع عناصر الحداثة الغير القابلة للاجتناب ضربنا به عرض الحائط حفاظا على "نقاء" الحداثة. ثم يصب داعيتنا اهتمامه على بيان خصائص الحداثة التي يجب على الدين أن يقف عند حدودها ويُخضع تعاليمه لإلزاماتها(9). فماهي خصائص حداثة السيد ملكيان وهل هي فعلا تلك التي نقرأ عنها في كتابات أصحابها الغربيين قبل غيرهم؟

ما أريد بيانه في عجالة -تناسب هشاشة حجج صاحبنا- هو أن الحداثة التي يتحدث عنها هي فكرة في رأسه وحده كما هو شأن روحيته ومن ثم فهو يحاول تأويل الدين، كل دين، ليلائم فكرة لاوجود لها خارج "دماغه".

مفهوم العقلانية أسال الكثير من المداد حتى ذهب بعض الغربيين إلى الدعوة إلى شطبه من الخطاب العلمي.

يقرر ملكيان أن العقلانية هي أكبر خصائص الحداثة دونما انشغال بتحديد المفهوم وكأن للفظ مرجعا واضحا واحدا عند الجميع. وعند البحث عن المفهوم عند أهل الحداثة و مراجعها الأعلون نجد القوم ذهبوا فيها مذاهب وتفرقوا شيعا وهذا أحد كبار السوسيولوجيا الفرنسي ريمون بودون يقول أن مفهوم العقلانية أسال الكثير من المداد حتى ذهب بعض الغربيين إلى الدعوة إلى شطبه من الخطاب العلمي(10). وحتى من تحدثوا عن العقلانية إنما تحدثو عن نوع عقلانية وهي التي سماها فلاسفة فرانكفورت بالعقلانية الأداتية واعتبروها من "أمراض" الحداثة لا من خصائصها.

والحقيقة أن الأستاذ المجدد في فهم الدين ينطلق من تصور "تقليدي تاريخي" للعقل يراه ماهية قائمة بذات صاحبها جاعلة منه كائنا قادرا على إدراك العالم كما هو، متمكنا من الوصول إلى حقائق الأمور دونما تسليم بشئ خارج سلطان العقل. فبالعقل يمكن التدليل على أي القيم يجدر بالإنسان التحلي بها وأيها جدير بالقمامة، فهو كوني وكامل ومتسق، وينبني هذا التصور نفسه على فهم مخصوص للغة يعطي الأولوية للوظيفة الوصفية ثم يرى هذا الوصف مستقلا عن اللغة مطابقا للعالم الموصوف.

وهذين التصورين المرتبطين للعقل واللغة من أوهام الماضي، الذي كان يعتقد أصحابه بكونية لم يعد لها مكان في حقول المعرفة المعاصرة، "فالكونية،كما يقول أحد خبراء البلاغة واللغة، تركت المكان لتواضع ميتافيزقي حقيقي، على طريقة هابرماز حيث كل ما يزال يطمح إليه هو الوصول إلى شروط مثالية -وكلها نظرية-للتواصل...(و) حتى الأنا تحول إلى واقع بلاغي" (11) و الإيدولوجيا أضحى مسلما باختراقها لسائر أشكال المعرفة ("المعرفة والمصلحة":ي.هابرماز) بل هي من المكونات الأساسية للعقلانية كما يرى عالم الاجتماع داونز في كتابه "نظرية اقتصادية للديموقراطية" (12) ومن ثم فإن مانجده في واقع الناس هو عقلانيات و ليس عقلانية بل ولكل حقل أو وسط عقلانيته الخاصة(13)، وهذا أشهر فلاسفة أمريكا وأكثرهم قراء ريشارد رورتي يذهب إلى أن تفسير العقلانية و السلطة المعرفية بالإحالة على ما يسمح لنا المجتمع بقوله أولى من العكس(14).

ثم يحدد ملكيان سمة أخرى للحداثة لا يمكن سلخها عنها، وهي نتيجة مباشرة للسمة الأولى، ومفادها أن الحداثة تتصف بكونها منهجا برهانيا استدلاليا (كذا! ص10) وساق تفسيرا لذلك مصحوبا برموز توهم بصورية البرهان ولن أجادل في حجاجية الخطاب الديني لأن الحجاج سمة كل خطاب طبيعي، ولكن يبقى من أغرب ما قرأت القول باختصاص أهل الحداثة بالسلوك وفق أسباب برهانية وأن بإمكان أي متناظرين أن ينتهيا إلى قناعة مشتركة يدعمها برهان، وهذا ما لا وجود له حتى في علوم الاستنباط (المنطق والرياضيات) (15)والطبيعة(16) فكيف يُدّعى إمكانه في الخطاب الطبيعي المشروط باللغة والتاريخ والمقتضى والمسلم به.

الذي عليه الاتفاق عند أهل الحداثة أنفسهم هو أن الإنسان وفي سائر الأزمنة يتصرف وفق أسباب، إنما اختلاف الأسباب مرده إلى اختلاف الثقافات وأشكال المعرفة وطرائق الحجاج المقبولة.

والذي عليه الاتفاق عند أهل الحداثة أنفسهم(17) هو أن الإنسان وفي سائر الأزمنة يتصرف وفق أسباب، إنما اختلاف الأسباب مرده إلى اختلاف الثقافات وأشكال المعرفة وطرائق الحجاج المقبولة. ومن الإستهانة بالعقول(18) الحديث عن دين بغير تعبد بدعوى أن الأخير لا برهان عليه ومن ثم لا يرضي "إنسان الحداثة" وكأن الملايين التي صلت في جنازة البابا لاتنتمي إلى الغرب و لايشملها وصف الحداثة.

 

إن مشكلة السيد ملكيان أنه صاغ مفهوما في ذهنه للحداثة وأتبعه مفهوما لإنسان الحداثة استنبطه من الأول-ذهنيا طبعا- ثم وضع أسسا جديدة لدين يخلف كل الأديان المتحققة شهودا نزولا عند شروط حداثة لا وجود لها إلا في ذهنه.

إن مشكلة السيد ملكيان أنه صاغ مفهوما في ذهنه للحداثة وأتبعه مفهوما لإنسان الحداثة استنبطه من الأول-ذهنيا طبعا- ثم وضع أسسا جديدة لدين يخلف كل الأديان المتحققة شهودا نزولا عند شروط حداثة لا وجود لها إلا في ذهنه. كما أن المفارقة في دعواه أنه أراد أن يبني منظومة قيم على مفهوم للعقلانية يمنع أي إمكانية لذلك لانبنائه أساسا على فصل جذري بين دائرتي المعرفة والقيم(19).

 

 

خـــتاماً :

إن المحزن في الأمر هو اعتبار كل تجديف في الدين أو تهوين لشعائره جرأة مهما كانت ضحالة المضمون و تفاهة الحجة.

والجرأة عند التحقيق هي أن يحترم الكاتب قارئه فلا يكتب إلا عما يعرف و لا يحتج إلا بما ينهض.

 

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

(1) هو كاتب كلمة التحرير في العدد المذكور

(2) تجديد التفكير الديني : مجلة قضايا إسلامية .2005 ع 30 ص125

(3)وكما يبدو من مواد أعدادها هي مجلة متنوعة تنشر ما توافر لها !

(4) وفي ما كتب السيد ملكيان آية على دعواي .

(5) الترجمة التي في المقال "المعنوية" , ليست موفقة فالمعنوية من المعنى لا من الروح .

(6) المقال كله مفاهيم لم يتعب الكاتب نفسه بتحديد مضمونها ولا إمكان هذا التحديد : الإنسان الحديث , الإنسان التقليدي , الإنسان الاستدلالي , الدين التاريخي .

(7) كلمة التحرير: قضايا إسلامية معاصرة 2005 ع30ص5

(8) وليذهب الانسان الاستدلالي إلى الجحيم!

(9) وغير خاف ما تفترضه هذه "الدعوى" من وضوح لمفهوم الحداثة وهلامية لمُسمّى الدين .

(10) R.boudon : L' art de se persuader .Fayard 1990 P 331-332

(11) Michel Meyer: question de rhétorique :langage, raison et séduction .librairie générale francaise1993 p9

(12) R.boudon : L' art de se persuader .Fayard 1990 p54 et 381-385

(13) R.boudon : L' art de se persuader .Fayard 1990

(14) R.Rorty Philosophy and the Mirror of Nature. Princeton University Press, 1979.p174

(15) يختلف الرياضيون إلى الآن حول نظرية المجموعات و يرفض الحدسيون البرهان بالخلف .

(16) بقي أينشتاين و ماكس بلانك إلى النهاية رافضين للميكانيكا الكوانتية . ولم يصل جدلهما مع بور و هايزنبرغ إلى قناعة!

(17) R.boudon : L' art de se persuader .Fayard 1990 P403

(18) زد على ذلك ان منظرنا يوهم بأن الأنبياء أمرو الناس بالتعبد و هؤلاء استجابو ثقة و تسليما!!!

(19) أحيل هنا على مؤلف قيم يعرض النقاش الدائر في الغرب حول مفاهيم الحداثة والعقلانية والقيم .يمكن تحميله على موقع دار نشره .

J-P. Cometti : Le philosophe et la poule de Kircher. Éditions de l'éclat 1997

 

Publicité
Publicité
Commentaires
دار المثقـف الاسلامـي
Publicité
Archives
Publicité