Canalblog
Suivre ce blog Administration + Créer mon blog

دار المثقـف الاسلامـي

14 juin 2012

الملكة بلقيس والسلام العالمي

بسم الله الرحمن الرحيم


قصة الملكة بلقيس ملكة سبأ مذكورة في القرآن الكريم ، وهي تشير بوضوح الى ان هذه الملكة العاقلة كانت واحدة من رواد السلام العالمي والحرص عليه والحرص على تجنيب شعبها الويلات ، وهو موقف جدير بالاحترام لا سيما والملكة كانت عربية وتحكم بلاداً عربية ومن المعروف ان العرب كان يشيع بينهم في الجاهلية التعصب القبلي والعشائري وحب الحرب وخوض القتال لأتفه الاسباب ! وقد كان قومها كذلك ولذلك حينما قالت لهم: (( يَا أَيُّهَا المَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ ، إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنِّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ، قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ)) ، اجابوها بقولهم: ((نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُوْلُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ)) فقدموا القوة والباس الشديد وبينوا استعدادهم للقتال والحرب وسفك الدماء ، وهو ليس سفك للدم من اجل الوطن بل من اجل البقاء على الشرك لأن النبي سليمان (عليه السلام) لم يكن يريد الاستيلاء على بلادهم بل اراد منهم الدخول في الاسلام فقال لهم في رسالته: ((أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ)). فهي حرب بين التوحيد والشرك والعرب كانوا في الجاهلية مستعدين للقتال من اجل الشرك الى ابعد حد !! ولكن كانت بلقيس اكثر حكمة من قومها فهي تعلم ان الحروب لا تجلب على الشعب الا الويل والثبور.


واذا تتبعنا التاريخ القديم ايام الاموريين والكلدانيية والآشوريين وغيرهم نجد انه بعد كل ظهور لملك قوي يقود الحروب الاستيلائية والاستعمارية فيستولي على اراضي الآخرين ويسفك الدماء ويبني مجده المزعوم على حساب جماجم ابناء شعبه وينقل تجربة شعبه الحضارية الى الاراضي المستولى عليها وبعد ذلك بفترة قليلة وبعد موت ذلك الملك القوي تضعف الدولة وتنهار وتسقط لتحل محلها دولة اخرى بسبب ان الحروب التي خاضها ذلك الملك القوي رغم انها تبني مجداً عسكرياً الا انها تستنزف القوى الاقتصادية للدولة وتضعفها وتجعلها دولة هزيلة فاقدة لمقومات الديمومة ، ولذلك سرعان ما تنهار. فإذا تتبعنا السلالات الحاكمة قديماً نجد ان حمورابي ونبوخذ نصر وآشور بانيبال واسرحدون وسنحاريب يقعون في نهاية السلالات التي حكمت دولهم وهو دليل واضح على صحة ما ذكرناه.
اما بلقيس فكانت تعرف عواقب الحروب وما يمكن ان تجلبه على ابناء قومها من ويلات فقالت لهم: ((إِنَّ المُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّة)) ، ولذلك فضلت ان تتفاوض مع المسلمين بدلاً من ان تدخل معهم في حرب دينية. فارادت بلقيس ان تختبر المنطق الحضاري الذي يبشر النبي سليمان (عليه السلام) به هل هو منطق استيلائي واستعماري كما كان يحصل في السلالات القديمة التي اشرنا اليها آنفاً ام ان لديه منطق آخر يمكن ان يفيد شعبها دون استيلاء واستعمار او حرب. ولذلك قالت لقومها: ((وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ المُرْسَلُونَ)) ، فحاولت ان تقدم له المنفعة المالية التي يبحث عنها الملوك في حروبهم لترى هل هو من اولئك الملوك الذين يبحثون عن المال بأي وسيلة ام ان لديه شيء آخر من وراء دعوته لهم للخضوع لسلطانه الديني ؟! وبعد ان تجشمت بلقيس عناء السفر من اليمن الى فلسطين لتمنع عن شعبها ويلات حرب لا تعرف ابعادها التقت بالنبي سليمان (عليه السلام) وعرفت فيه الصدق وانه جاء لقومها بحضارة توحيدية متكاملة فيها خير الدنيا والآخرة فاعتنقت دينه ونهلت من حضارته.
فالحرب ليست هدف ولا الاستسلام هو الهدف بل المباديء السامية هي الهدف وهي المباديء التي يحكم بها العقل ويفهمها الحكماء والعقلاء ، فليس من الحكمة خوض حرب ضد شخص يدعوا الى التوحيد كما انه ليس من الحكمة التخلي عن ارض التوحيد وارض المسلمين. فبلاد المسلمين ليست ملكاً لأحد حتى يتخلى عنها ويتنازل عنها اي حاكم سواء لهذا الكيان او ذاك من الكيانات الدخيلة.


وبعد ان اختبرت بلقيس نوايا النبي سليمان (عليه السلام) وحققت دعوته الى الاسلام وعرفت ما الذي يكمن خلف هذا الدين العظيم وما الذي يحققه من حضارة وتقدم ، اقرّت بان التوحيد هو الحق ونهجت منهج العقلاء بالخضوع لرب العالمين واتباع نبيه وشريعته. وبذلك سلكت سلوكاً مسالماً وتجنبت العزة بالاثم ، لا كما كان ابو جهل يقول: (والله اني اعلم انه نبي ولكن متى كنا لبني عبد مناف تبعا) !! وجيش الجيوش ضد الموحدين المسلمين ، اما بلقيس فلم يتملكها التعصب الجاهلي بل تخلت عنه وسلكت في سبل السلام فحقنت دماء شعبها وحازت رضا ربها. فسطرت بلقيس واحدة من اعظم القصص في الاستسلام لإرادة الله سبحانه واعتناق شريعته وتجنيب الناس القتل والحرب وضمنت لسلالتها الاستمرار في الحكم دون ان ينتزع منهم الملك من قبل النبي سليمان (عليه السلام).

وهنا يتبادر الى الاذهان سؤال وهو: لو ان ملوك الارض الذين ارسل لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) رسائل الدعوة الى الاسلام كما فعل من قبل سليمان (عليه السلام) مع بلقيس ، لو ان اولئك الملوك امتلكوا رجاحة عقل كرجاحة عقل بلقيس وخضعوا للتوحيد وانقادوا لشريعة الله سبحانه هل كانت الفتوحات الاسلامية ستستمر ام انها ستتوقف وتبقى تلك الممالك الفارسية والرومانية والقبطية قائمة ولكن باعتناقها شريعة الاسلام ؟ بكل تأكيد لو انهم آمنوا بالاسلام لأحتفظوا بملكهم وعروشهم مع خضوعهم لشريعة الله سبحانه ولما جرت عليهم تلك الويلات ولا سفكت دماء ولا سبيت اماء نتيجة تعنت دول الطغيان الفارسية والرومانية ومنعها للاسلام من الانتشار في بلادها.


نبيل محمد حسن

Publicité
Publicité
14 juin 2012

لماذا نساء العلمانيين سافرات ؟

بسم الله الرحمن الرحيم
انه امر ملفت للنظر ان لا تجد علمانياً ملتزماً بالشريعة الاسلامية !؟ هم يخدعوننا ويقولون ان العلمانية هي فصل الدين عن الدولة وان الدين يجب ان يبتعد عن السياسة وان الدين هو علاقة بين الانسان وخالقه ، ولكننا لا نجد اغلب العلمانيين الذين يعتنقون هذه الافكار متدينين ولديهم علاقة مع خالقهم ! ولديهم اسرة ملتزمة بتعاليم الاسلام ! ولا تجد في الغالب علماني يتدين ولا علمانية محجبة ! بل على العكس نجد العلمانيين يحملون افكاراً مغلوطة عن الدين وتعاليمه ! ولا نجد تفسيراً لذلك سوى ان نقول انهم يحاولون خداع الناس ، يرفعون شعار فصل الدين عن السياسة ويستعملون السياسة للبطش بالمتدينين ! ويحاولون تخريب الفكر الديني في اذهان الناس فيدعمون كافة الافكار ووسائل الاعلام المخالفة للدين والتي تعمل ليلاً ونهاراً على زعزعة ثقة الناس بالدين وجدواه وابعاده.
انها المنظومة الفكرية الغربية التي تحمل سوطها لتجلد كل من يؤمن بالقيم الفاضلة ، وكل من يؤمن بالطبيعة البشرية !؟ تصوروا انهم يعتبرون من يعتقد ان هناك فرق بين الرجال والنساء من حيث الطبيعة البشرية يعبرونه متخلف ومعادي للمساواة المفروضة على الشعوب ! فإذا قلنا ان جسد الرجل يتحمل الاعمال الشاقة بخلاف جسد المراة يعتبرون ذلك مخالفاً للمساواة ويسمونه رجعية ، والويل كل الويل لمن يصبح متهماً بالرجعية !!
ان العلمانية في حقيقتها ليست فصل الدين عن السياسة بل هي فصل الدين عن الحياة ، والعلماني الذي يعتنق هذه الفكرة الشيطانية يصبح محذوراً عليه ان يتظاهر بأنه يصلي او يصوم او يدعوا الى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة. فهل سمعتم يوماً علمانياً يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر !؟ هل سمعتم علمانياً يوماً يقول بقيمومة الرجل على المراة كما هو نص القرآن الكريم ، فإن لم يفعل العلمانيون ذلك فلماذا يصرون على ان العلمانية هي فصل الدين عن السياسة وليست فصلاً للدين عن الحياة !؟
ومن جانب آخر لماذا نجد ان الملحدين يتظاهرون بالعلمانية رغم انهم لا يؤمنون بوجود الخالق سبحانه ؟! لماذا لا يصرح الملحدون برفضهم للدين والعلمانية معاً ، إذ حينما يرفضون الدين فعليهم ان يرفضوا فكرة العلمانية ايضاً اذ ان الدين المفصول عن السياسة هو احد ركائز العلمانية ! فلماذا يتستر الملحدون بالعلمانية لطعن الدين ولا يجرؤن على رفضهما معاً ؟! وهل أن هذا هو السبب في انه يندر ان تجد علمانيا متديناً لأنهم في حقيقتهم ملحدون !!
فهل عرفنا جواب سؤالنا: لماذا نساء العلمانيين سافرات ؟!


نبيل محمد حسن

14 juin 2012

مشروعية ثقافة تعدد الزوجات

بسم الله الرحمن الرحيم


قال تعالى: ((فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا)) صدق الله العلي العظيم.

وقد اجمع المسلمون قديماً وحديثاً على وجود ثقافة تعدد الزوجات في الاسلام ، فالاسلام يبيح ان يتزوج الرجل بأكثر من امرأة ، ولا يشترط الاسلام لتعدد الزوجات سوى ان يكون الحد الاعلى للجمع بين الزوجات هو اربع زوجات ، وعدا ذلك فللرجل ان يتزوج تحت اي ظروف وتحت اي رؤى اكثر من زوجة مهما كانت ظروف حياته. وهناك ايضا بالاضافة لشرط التعدد امر اوجبه الاسلام على الرجل وهو العدل بين زوجاته في النفقة وهو قوله تعالى ((فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا)) ، فيجب ان يساوي الرجل في مقادر النفقة التي ينفقها على زوجاته بصورة متساوية. ولكن التساوي في النفقة لا يرتقي لمستوى الشرط الذي يتوقف الزواج عليه ، فليس من شروط صحة الزواج ان يكون هناك تساوي في النفقة وكذلك فمن لا يساوي في النفقة لا يبطل عقد زواجه ، فالامر بالمساواة في النفقة يرتبط بمجمل سيرة الانسان وسلوكه وما سيحاسب عليه في الدار الاخرة ، فبصورة عامة يجب ان يكون الانسان عادلاً ليس في النفقة بين نسائه بل في عامة شؤون حياته ، فيجب ان يكون عادلاً بين ابنائه في الرعاية والنفقة وعادلاً مع اخوته وجيرانه واصدقائه ومجتمعه وكافة محيطه ، لأن الاسلام يريد من الانسان ان يكون عادلاً في جميع افعاله. اذن فالامر بالمساواة بين الزوجات في النفقة يرتبط بالحساب يوم القيامة ولا يتوقف عليه صحة الزواج ولا صحة الاقدام على تعدد الزوجات.

اما من حيث الحب والمودة والميل القلبي فهي امور انسانية لا يستطيع الرجل وضعها في ميزان واحد ليس بالنسبة لزوجاته فقط بل بالنسبة لكل مشاعره تجاه اخوته واصدقائه ومحيطه ، فهناك من يحب احد اخوته اكثر من الآخر دون ان يمس هذا التفاوت في الحب المقدار الواجب من صلة الرحم والعطف والاهتمام ، وكذلك هناك تفاوت في حب الانسان لمعارفه من جيران واصدقاء وزملاء في العمل ، ولذلك لم يجبر الاسلام الرجل على ان يحب زوجاته بصورة متساوية لأنه لا منطق في ذلك والاسلام هو دين العقل والمنطق والفطرة السليمة ، اذ لا يمكن ان يتحكم الانسان بمشاعره لأنها امور روحية وليست مادية. ولذلك نجد ان قوله تعالى: ((وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُوا كُلَّ المَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً)) يخص العدالة بين النساء في الميل القلبي كما صرّح بذلك المفسرون المعتبرون من ذوي الاختصاص ، ويحاول البعض ان يفسر القرآن برأيه ـ وهو امر ممنوع شرعاً اي لا يجوز تفسير القرآن بالرأي ـ ان يقول ان العدالة في هذه الآية الكريمة تخص ايضاً العدالة في النفقة والقرآن يخبرنا انه لن يكون عدالة في النفقة ولذلك لا يجوز تعدد الزوجات !! وهذه الشبهة منتشرة في الاوساط التي تحارب اباحة الشريعة لتعدد الزوجات ولا سيما عبر الفضائيات المغرضة رغم ان تفنيد هذه الشبهة يكون في الآية الكريمة نفسها حيث ان تتمة الآية تقول ((فَلاَ تَمِيلُوا كُلَّ المَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ)) اي ان الآية الكريمة لم تمنع من تعدد الزوجات في حالة عدم العدالة بل امرت بعدم الميل الكلي نحو زوجة على حساب زوجة اخرى اي ان الآية الكريمة في حقيقتها اقرّت نظام تعدد الزوجات ولم تبطله كما يحاول ان يروًج لذلك المغرضون.

ولا يخفى على ذوي العقل والبصيرة ان الآية الكريمة قوله تعالى: ((فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ)) قد ابتدأت بالامر بالزواج المثنى ، اي ان العدد الطبيعي للزواج هو بزوجتين وبهذا يصلح حال الانسان ويتوازن المجتمع ، واما الزواج بواحدة فهو يحدث غالباً بسبب قلة ذات اليد اي بسبب عدم القدرة المالية على رعاية زوجتين وفق استحقاقهن الطبيعي.

كما لا يخفى على ذوي الفكر والتدبّر الفوائد الكبيرة لتعدد الزوجات وعلى مختلف الاصعدة وبما يحقق التوازن النفسي والاجتماعي للرجل والمرأة والمجتمع ، وفي تعدد الزوجات حلول للكثير من مشاكل المرأة المرتبطة بالعنوسة والطلاق وكذلك مشاكل الارامل ، فتعدد الزوجات هو الآلية الاكثر نجاحاً في ايجاد حلول جذرية لمشاكل المرأة التي تعجز الآليات الاخرى عن ايجاد حلول لها.


نبيل محمد حسن

14 juin 2012

حــداثة من رمــال

بسم الله الرحمن الرحيم

بقلم: محمد الهداج

 

استغربت أن تكون مجلة موضوع ندوة فكرية قرأت تفاصيلها على موقع "الشهاب" بالشبكة الدولية، وأعترف أنني لم أكن أعرف عنها إلا ما قاله ضيوف الندوة، الذين خصوا المجلة بوابل من التقريض الذي تناول استقلاليتها وعمق الدراسات المنشورة على صفحاتها وجرأة بعض أقلامها ومعاصرتهم وجدة خطهم،

فقلت ربما كانت هذه المجلة من العلامات الفكرية في الأمة كما كانت في أيام مضت مجلة "الأمة" القطرية الموؤودة، أو مجلات غربية كانت تدشن لخط علمي أو فكري ك "الأزمنة الحديثة" الفرنسية أو "طبيعة" الإنجليزية.

ولم يطل أمد تخميناتي، فقد وجدت عددها الأخير في إحدى المكتبات فاقتنيت ما ظننته "كنزا"، والعهدة على على الإخوة في الندوة، وكان من "حسن" حظي أن كان من كتبة العدد بعض ممن نوه حضور الندوة بهم وبـ "تجديديتهم" وجرأتهم، ومنهم السيد مصطفى ملكيان الذي يبدو أنه من هيئة تحرير المجلة(1) وكانت ثلاث مداخلات في الندوة حبته بأوصاف الجرأة والإثارة والنقد.

وما أن افتتحت القراءة في كلمة التحرير التي عنون لها السيد ملكيان بـ"رهانات الحداثة" حتى شككت في أن ما قرأته في الندوة كان عن غير هذا الرجل وعن غير هذه المجلة، ولكن لامجال للشك، فالندوة التي قرأت نصها على صفحات "الويب" أعيد نشرها بالمجلة "المجددة في "فلسفة الدين" و"الهرمينوطيقا" والمخلخلة للبنية السائدة للتفكير و المدمرة للنسق السلفي السائد"(2).

وقد حملني على خط هذه الأسطر في "التعليق" على مقال مجددنا ملكيان هو أن الندوة نظمها إخوة في المغرب بلغني عنهم ما يثلج الصدر من حس نقدي واجتهاد فكري دفعوا على ما يبدو ثمنا له "الفصل" من تنظيم معروف. ولكن أن تكون "الوجهة" الدعاية لإسفاف من "الفكر" كالذي قرأت ولمجلة هي على الحقيقة عمل متواضع لا توحد مضمونَه فكرة ناظمة ولا خطابَه ميزة فارقة(3)، أمر محزن حقا، وإن ما يكرسه خطاب الندوة هو نفسه ما اعتقدت منظميها "يحاربونه" من "تفكير" بالأشخاص والهيئات، وإن القول بانفتاح البعض على مناهج الغرب لمجرد "حشرهم" في خطاباتهم لكل ما ينتهي بـ"لوجيا" لايعني اسيعابهم لها ولا مناسبة أقوالهم لمقامات استحضارها(4)، ولا أحد سيحكم بأن من يرقع جلبابه البالي بأثواب من "الكشمير" أو "البلودجين" قد أصلحه أو جدده.

"حداثة" السيد ملكيان :

يبدأ ملكيان حديثه بالدعوة إلى فهم جديد للدين يسميه "الروحية"(5) لأن "الإنسان الحديث"(6) ليس في مقدوره تلقي الدين بطريقة الأقدمين(7) ثم يقدم تعاليم "روحيته" التي يقبل بكونها لب الدين وجوهره، ليس بوصفها دعوى يقيم الدليل عليها(8) ولكن بوصفها ضرورة لا يدركها الإنسان إلا إذا استشعر أمرين: الحاجة إلى الدين والإحساس بأن الدين بمفهومه "التقليدي التاريخي الأصولي" لا ينسجم مع عناصر الحداثة التي لا يمكن اجتنابها ثم يخلص إلى أن الروحية هي فهم جديد للدين لايتعارض مع الحداثة أو بعبارة يفهمها "التقليدي التاريخي" أن الروحية هي الدين مضافا إليه أصل جديد من أصول الفقه والتوحيد معا وهو الحداثة. وإذا تعارض نص أو شعيرة أو مبدأ من الدين مع عناصر الحداثة الغير القابلة للاجتناب ضربنا به عرض الحائط حفاظا على "نقاء" الحداثة. ثم يصب داعيتنا اهتمامه على بيان خصائص الحداثة التي يجب على الدين أن يقف عند حدودها ويُخضع تعاليمه لإلزاماتها(9). فماهي خصائص حداثة السيد ملكيان وهل هي فعلا تلك التي نقرأ عنها في كتابات أصحابها الغربيين قبل غيرهم؟

ما أريد بيانه في عجالة -تناسب هشاشة حجج صاحبنا- هو أن الحداثة التي يتحدث عنها هي فكرة في رأسه وحده كما هو شأن روحيته ومن ثم فهو يحاول تأويل الدين، كل دين، ليلائم فكرة لاوجود لها خارج "دماغه".

مفهوم العقلانية أسال الكثير من المداد حتى ذهب بعض الغربيين إلى الدعوة إلى شطبه من الخطاب العلمي.

يقرر ملكيان أن العقلانية هي أكبر خصائص الحداثة دونما انشغال بتحديد المفهوم وكأن للفظ مرجعا واضحا واحدا عند الجميع. وعند البحث عن المفهوم عند أهل الحداثة و مراجعها الأعلون نجد القوم ذهبوا فيها مذاهب وتفرقوا شيعا وهذا أحد كبار السوسيولوجيا الفرنسي ريمون بودون يقول أن مفهوم العقلانية أسال الكثير من المداد حتى ذهب بعض الغربيين إلى الدعوة إلى شطبه من الخطاب العلمي(10). وحتى من تحدثوا عن العقلانية إنما تحدثو عن نوع عقلانية وهي التي سماها فلاسفة فرانكفورت بالعقلانية الأداتية واعتبروها من "أمراض" الحداثة لا من خصائصها.

والحقيقة أن الأستاذ المجدد في فهم الدين ينطلق من تصور "تقليدي تاريخي" للعقل يراه ماهية قائمة بذات صاحبها جاعلة منه كائنا قادرا على إدراك العالم كما هو، متمكنا من الوصول إلى حقائق الأمور دونما تسليم بشئ خارج سلطان العقل. فبالعقل يمكن التدليل على أي القيم يجدر بالإنسان التحلي بها وأيها جدير بالقمامة، فهو كوني وكامل ومتسق، وينبني هذا التصور نفسه على فهم مخصوص للغة يعطي الأولوية للوظيفة الوصفية ثم يرى هذا الوصف مستقلا عن اللغة مطابقا للعالم الموصوف.

وهذين التصورين المرتبطين للعقل واللغة من أوهام الماضي، الذي كان يعتقد أصحابه بكونية لم يعد لها مكان في حقول المعرفة المعاصرة، "فالكونية،كما يقول أحد خبراء البلاغة واللغة، تركت المكان لتواضع ميتافيزقي حقيقي، على طريقة هابرماز حيث كل ما يزال يطمح إليه هو الوصول إلى شروط مثالية -وكلها نظرية-للتواصل...(و) حتى الأنا تحول إلى واقع بلاغي" (11) و الإيدولوجيا أضحى مسلما باختراقها لسائر أشكال المعرفة ("المعرفة والمصلحة":ي.هابرماز) بل هي من المكونات الأساسية للعقلانية كما يرى عالم الاجتماع داونز في كتابه "نظرية اقتصادية للديموقراطية" (12) ومن ثم فإن مانجده في واقع الناس هو عقلانيات و ليس عقلانية بل ولكل حقل أو وسط عقلانيته الخاصة(13)، وهذا أشهر فلاسفة أمريكا وأكثرهم قراء ريشارد رورتي يذهب إلى أن تفسير العقلانية و السلطة المعرفية بالإحالة على ما يسمح لنا المجتمع بقوله أولى من العكس(14).

ثم يحدد ملكيان سمة أخرى للحداثة لا يمكن سلخها عنها، وهي نتيجة مباشرة للسمة الأولى، ومفادها أن الحداثة تتصف بكونها منهجا برهانيا استدلاليا (كذا! ص10) وساق تفسيرا لذلك مصحوبا برموز توهم بصورية البرهان ولن أجادل في حجاجية الخطاب الديني لأن الحجاج سمة كل خطاب طبيعي، ولكن يبقى من أغرب ما قرأت القول باختصاص أهل الحداثة بالسلوك وفق أسباب برهانية وأن بإمكان أي متناظرين أن ينتهيا إلى قناعة مشتركة يدعمها برهان، وهذا ما لا وجود له حتى في علوم الاستنباط (المنطق والرياضيات) (15)والطبيعة(16) فكيف يُدّعى إمكانه في الخطاب الطبيعي المشروط باللغة والتاريخ والمقتضى والمسلم به.

الذي عليه الاتفاق عند أهل الحداثة أنفسهم هو أن الإنسان وفي سائر الأزمنة يتصرف وفق أسباب، إنما اختلاف الأسباب مرده إلى اختلاف الثقافات وأشكال المعرفة وطرائق الحجاج المقبولة.

والذي عليه الاتفاق عند أهل الحداثة أنفسهم(17) هو أن الإنسان وفي سائر الأزمنة يتصرف وفق أسباب، إنما اختلاف الأسباب مرده إلى اختلاف الثقافات وأشكال المعرفة وطرائق الحجاج المقبولة. ومن الإستهانة بالعقول(18) الحديث عن دين بغير تعبد بدعوى أن الأخير لا برهان عليه ومن ثم لا يرضي "إنسان الحداثة" وكأن الملايين التي صلت في جنازة البابا لاتنتمي إلى الغرب و لايشملها وصف الحداثة.

 

إن مشكلة السيد ملكيان أنه صاغ مفهوما في ذهنه للحداثة وأتبعه مفهوما لإنسان الحداثة استنبطه من الأول-ذهنيا طبعا- ثم وضع أسسا جديدة لدين يخلف كل الأديان المتحققة شهودا نزولا عند شروط حداثة لا وجود لها إلا في ذهنه.

إن مشكلة السيد ملكيان أنه صاغ مفهوما في ذهنه للحداثة وأتبعه مفهوما لإنسان الحداثة استنبطه من الأول-ذهنيا طبعا- ثم وضع أسسا جديدة لدين يخلف كل الأديان المتحققة شهودا نزولا عند شروط حداثة لا وجود لها إلا في ذهنه. كما أن المفارقة في دعواه أنه أراد أن يبني منظومة قيم على مفهوم للعقلانية يمنع أي إمكانية لذلك لانبنائه أساسا على فصل جذري بين دائرتي المعرفة والقيم(19).

 

 

خـــتاماً :

إن المحزن في الأمر هو اعتبار كل تجديف في الدين أو تهوين لشعائره جرأة مهما كانت ضحالة المضمون و تفاهة الحجة.

والجرأة عند التحقيق هي أن يحترم الكاتب قارئه فلا يكتب إلا عما يعرف و لا يحتج إلا بما ينهض.

 

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

(1) هو كاتب كلمة التحرير في العدد المذكور

(2) تجديد التفكير الديني : مجلة قضايا إسلامية .2005 ع 30 ص125

(3)وكما يبدو من مواد أعدادها هي مجلة متنوعة تنشر ما توافر لها !

(4) وفي ما كتب السيد ملكيان آية على دعواي .

(5) الترجمة التي في المقال "المعنوية" , ليست موفقة فالمعنوية من المعنى لا من الروح .

(6) المقال كله مفاهيم لم يتعب الكاتب نفسه بتحديد مضمونها ولا إمكان هذا التحديد : الإنسان الحديث , الإنسان التقليدي , الإنسان الاستدلالي , الدين التاريخي .

(7) كلمة التحرير: قضايا إسلامية معاصرة 2005 ع30ص5

(8) وليذهب الانسان الاستدلالي إلى الجحيم!

(9) وغير خاف ما تفترضه هذه "الدعوى" من وضوح لمفهوم الحداثة وهلامية لمُسمّى الدين .

(10) R.boudon : L' art de se persuader .Fayard 1990 P 331-332

(11) Michel Meyer: question de rhétorique :langage, raison et séduction .librairie générale francaise1993 p9

(12) R.boudon : L' art de se persuader .Fayard 1990 p54 et 381-385

(13) R.boudon : L' art de se persuader .Fayard 1990

(14) R.Rorty Philosophy and the Mirror of Nature. Princeton University Press, 1979.p174

(15) يختلف الرياضيون إلى الآن حول نظرية المجموعات و يرفض الحدسيون البرهان بالخلف .

(16) بقي أينشتاين و ماكس بلانك إلى النهاية رافضين للميكانيكا الكوانتية . ولم يصل جدلهما مع بور و هايزنبرغ إلى قناعة!

(17) R.boudon : L' art de se persuader .Fayard 1990 P403

(18) زد على ذلك ان منظرنا يوهم بأن الأنبياء أمرو الناس بالتعبد و هؤلاء استجابو ثقة و تسليما!!!

(19) أحيل هنا على مؤلف قيم يعرض النقاش الدائر في الغرب حول مفاهيم الحداثة والعقلانية والقيم .يمكن تحميله على موقع دار نشره .

J-P. Cometti : Le philosophe et la poule de Kircher. Éditions de l'éclat 1997

 

14 juin 2012

آفـاق الحريـة الشخصيـة

بسم الله الرحمن الرحيم

جدال الحريات الشخصية مستمر منذ عقود كثيرة ، فبين داعية لاطلاق الحريات الشخصية بلا حد وان للانسان الحق في اي تصرف لا يتعارض مع حرية الآخرين مهما كان تصرفاً شاذاً او غير اخلاقي ! وبين من يدعو لاخضاع الحريات الشخصية للضوابط الاخلاقية العامة التي مصدرها الاديان في غالب الامر.

انصار الحريات الفردية يقولون بأن لكل انسان الحق في ان يتصرف بما يشاء ما دامت حريته لا تتعارض مع حرية الاخرين ولكنهم مع ذلك يخالفون انفسهم حيث نجدهم يضعون العديد من القوانين التي تحجر على الحريات الفردية بطريقةٍ ما ! مثلاً في العالم الغربي (امريكا واوربا) هناك عقوبات على تعدد الزوجات رغم ان الزنى مباح عندهم ! ورغم ان تعدد الزوجات نفسه هو من الحريات الفردية والزواج عندهم مدني غير مرتبط بالكنيسة فلا معنى للوقوف بالضد من حرية الانسان في الزواج من اكثر من امرأة برغبتها.

ومثال آخر: نجد انه في الغرب هناك عقوبات بالسجن على من يقترف زنى المحارم ، نعم العقاب مطلوب لهذه الجريمة بلا شك ولكنها تخالف مبانيهم التي يدّعونها حيث ان هذا الزنى عندهم هو من الحريات الشخصية بحسب دعواهم ومبانيهم الفكرية !

ومثال ثالث ، حيث نجد ان حرية التعبير مكفولة عندهم في الغرب ولكن من يتطرق الى موضوع المحرقة اليهودية ويعبر عن رأيه فيها بالرفض او التشكيك يعرض نفسه لعقوبة السجن والفصل من الوظيفة ! ونفس الامر بالنسبة للافكار العنصرية كالنازية والفاشية وغيرها نجد ان حرية التعبير في الغرب لا تشملها فلا يجوز لأحد ان يعبر عن رأي مؤيد او متعاطف معها ! مع ان ذلك كله ـ اي حرية اعتناق الافكار والعقائد ـ من الحريات الشخصية !؟

وهناك امثلة عديدة اخرى تدل على ان دعوى الحريات الفردية التي يروّج لها خصوم الاسلام في العالم الاسلامي لا يوجد لها  في الغرب تطبيق شامل بعيد عن الانتقائية !؟

ان دعاة الحرية يقولون بان كل انسان مسؤول عن تصرفاته وانه حر في اي قول او فعل يصدر عنه يعبر به عن حريته المطلقة ما دامت لا تتعارض مع حرية الاخرين ، فحرية الاخرين عندهم خط احمر لا يجوز التقاطع معها. ولكن المشكلة الحقيقية ليست في الحرية الفردية نفسها بل في معطياتها وافرازاتها ، فنحن نؤمن بأن الحرية الفردية هي حرية اساسية في حياة الانسان ومجتمعه ما دامت في ظل الضوابط الشرعية. وخلافنا مع خصوم الاسلام هو حول الحريات الفردية التي تتعارض مع الاحكام الشرعية والتي يتطلب اقترافها النهي عنها باعتبارها امراً منكراً وفق المنطلقات الدينية مثل تناول المخدرات والخمور والدعارة والزنى ونشر الاغاني في الاماكن العامة والارتداد عن الدين وغيرها من القضايا الشائعة التي تدخل ضمن هذا الاطار. فالحرية الفردية مدار البحث والاختلاف هي ما يمكن ان نسميه (الحرية الفردية المُنكَرة).

ومشكلتنا الاساسية في "الحرية الفردية المنكرة" ان وجودها في المجتمع بحد ذاته هو وجود تخريبي ومفسد فلا يمكن ان يزعم شخص ان شرب الانسان للخمر هو موضوع حرية شخصية بدعوى ان من يشرب الخمر انما يضر نفسه فقط ومن يقترف الزنى انما يؤثر على نفسه واخلاقياته وحده ، فحقيقة الامر ان من يشرب الخمر انما يريد بشربه هذا لجميع الناس ان يشربوا الخمر مثله ومن يزني ايضا يريد لكل الناس ان يقترفوا الزنى مثله وهكذا ، وهذه القضية يعترف بها حتى اشد المدافعين عن قضية الحريات الشخصية وهو جان بول سارتر اشهر فلاسفة الوجودية في عصرنا هذا ، حيث يقول كما في كتاب (الوجودية مذهب انساني) الطبعة الاولى 1964 ، ص16 ما نصه: ( ان اختيارنا لنمط معين من انماط الوجود هو تأكيد لقيمة ما نختار واعلاء لشانه وكأننا نقول لكل الناس: اختاروا مثلما اخترنا ، فنحن لا يمكن ان نختار الشر لانفسنا ، وما نختاره دائماً خير لنا ومن ثم فهو خير لكل الناس). ونجده في صفحة 18 يقول: (لنأخذ حالة من الحالات الشخصية ولنفترض اني قررت ان اتزوج وانجب اولاداً فإن قراري هذا ولو انه نابع من موقفي او من عاطفتي او رغبتي فأنني الزم به نفسي وألزم به الانسانية جمعاء: أن تأخذ بفكرة الزواج وتمارسها ، فأنا مسؤول إذن عن نفسي وعن كل الناس ، وانا اخلق صورة معينة لما يجب ان يكون عليه الانسان ، اختار الانسان وأبدع الصورة التي يجب ان يكون عليها). فهو يؤكد ان كل ما يختاره الانسان لنفسه هو خير للانسان مهما كان لأن الانسان هو الذي يصنع ماهيته ـ حيث ان سارتر كان ملحداً منكراً لوجود الخالق جلَّ وعلا ـ اذن كل خيارات الانسان من وجهة نظر سارتر هي خير له مهما كانت ! ومن جهة اخرى يؤكد سارتر ان الانسان باختياره ما يحلو له ضمن اطار الحرية الشخصية المطلقة فهو بذلك يختار لنفسه وللآخرين وللمجتمع كله.

اذن نجد ان التشخيص الاسلامي لطبيعة الانسان ومجتمعه وحدود حريته هو تشخيص صحيح ونافع ولا يتعارض حتى مع تشخيص الفلسفة الوجودية الحديثة التي يستند اليها دعاة اباحة واطلاق الحريات الشخصية بلا قيود ، وان ما اكدت عليه الشريعة الاسلامية من ان حدود الحرية الشخصية تتوقف عند تعارضها معها يحصن المجتمع ويحافظ على اخلاقياته. فمن يشرب الخمر ومن يتناول المخدرات ومن يمارس الدعارة ومن يرتد عن الدين انما يريد من الانسانية كلها ان تشرب وتتناول وتمارس ما يفعله ! ومن هذا ظهرت الحاجة الحقيقية لوجود تشريعات قانونية دقيقة تبيح الحريات الشخصية وتمنع ما يتعارض منها مع الاسلام لكي لا تكون (الحريات الشخصية المنكرة) شائعة في المجتمع وعاملة على افساده ونشر قيم الرذيلة والانحطاط فيه. وبذلك نبقى محافظين على مجتمعنا سليماً معافى بسيادة الاخلاق والقيم الاصيلة المحافظة فيه.

 

نبيل محمد حسن

Publicité
Publicité
14 juin 2012

اصالـة القـرآن الالهيـة

بسم الله الرحمن الرحيم

قال تعالى: ((وَمَا كَانَ هَذَا القُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ العَالَمِينَ)). صدق الله العليُّ العظيم.

مقولة قديمة رددها قدامى المستشرقين والمبشرين النصارى في اطار سعيهم للتصدي للاسلام ومحاولة طمس وتشويه ملامحه ! تلك هي مقولة ان القرآن الكريم هو من نتاج محمد (صلى الله عليه وآله) وانه ليس كلام الله سبحانه وقد سعوا بشتى الوسائل والافكار والمعاني لنشر هذه الفكرة غير ان مساعيهم جميعاً تميزت بانها كانت مفتقرة للدليل ومصطدمة دائماً بديمومة القرآن الكريم الاعجازية وحيويته وقدرته على مواكبة جميع العصور وتطور العلوم. وما زال بعض المستشرقين واذنابهم من بعض الذين كانوا منتسبين الى الاسلام يرددون هذه المزاعم والشبهات ، منهم جوستاف لوبون (1841 – 1931)م ، واليهودي جولد تسيهر(1850 - 1921)م ، وديڤيد صمويل مرجليوث (1858-1940)م ، وإميل درمنغم (1892 – 1971) ، وهاملتون جب (1895-1971)م  ، ووليام مونتغمري واط (1909 – 2006)م ، واليهودي جويتاين (1900- )م ، وعبد الكريم سروش وغيرهم.

وتعددت نعوتهم لمصدرية القرآن الكريم المحمدية بزعمهم بين الوحي النفسي والخواطر والهالة النبوية والوجدان وغرضهم منها واحد كما بيناه آنفاً. وهم في خضم هذا كله تائهون ليس لهم قرار او دليل صحيح او قرينة معتبرة !

وفي نفس الاطار قال عبد الكريم سروش في مقابلة معه مع مجلة " زمزم " الهولندية المتخصصة بقضايا العالم الإسلامي ، عام 2007: (النبي يشعر، مثله في ذلك مثل الشاعر، أنه يُمسـَك به من قبل قوة خارجية عنه. ولكن في الواقع - أو بالأحرى في الوقت نفسه – يكون هو الخالق والمنتج. أما السؤال عما إذا كان الإلهام يأتي من الداخل أو من الخارج فهذا لا يهم في الواقع ، لأنه على مستوى الوحي ليس هناك فرق بين الداخل والخارج . الإلهام يأتي من ذات النبي . وذات كل فرد هي ذات إلهية . ما يميز النبي عن غيره من الناس هو أنه يدرك هذه الألوهية. فذاته أصبحت تشكل مع الله شيئا واحداً) !! حسناً يا سروش انت ايضاً يمكن ان تدرك ان ذاتك الهية كما تزعم فهلا اتيتنا بمثل القرآن في نظمه وبلاغته وحكمته وتشريعاته الصالحة. لماذا تعجز ذاتك يا سروش وذوات جميع البشر عن الاتيان بمثل هذا القرآن العظيم رغم مزاعمكم بانه بشري المصدر !؟ الا يكشف لكم ذلك عن صدق انتساب القرآن الى الله سبحانه باعتباره كلامه المنزل كما يكشف لكم عن تهافتكم وهزيمتكم امام التحدي القرآني العظيم بالاتيان بمثله.

هؤلاء المساكين يتصورون ان اي انسان يدخل في خلوة او اعتكاف او تفكر في الوجود او انقطاع للعبادة بعيداً عن الناس يمكنه ان ياتي بمثل هذا القرآن العظيم كما حدث لرسول الله محمد (صلى الله عليه وآله) ايام تعبده في غار حراء ، ولكن الملفت للنظر ان احداً قبل رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يتمكن ان يفعل ذلك كما لم يتمكنه احد بعده. فقط انبياء الله عزَّ وجل هم القادرون بمشيئة الله تعالى على الاتيان بالمعجزات الظاهرة والباهرة والاتيان بالشريعة التي تجلب السعادة والصلاح للمجتمع.

نعم هناك البعض ممن كانوا يميلون الى العزلة والتفكر في الوجود والحياة واصلها والدوافع الانسانية والكون ومسيرة الانسان وغاياته وماهيته ... الخ ، لكن هؤلاء لم يكونوا في يوم من الايام انبياء ، ولم يدَّعِ احد منهم النبوة بل كانوا بفكرهم ونتاجهم الانساني فلاسفة ساروا في طريق التفلسف ولم يكونوا شيء آخر ابداً. ولو كان رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله) من هؤلاء طلاب العزلة والتفكر في الوجود والكون والانسان لوجدناه يسلك سلوك الفلاسفة في نتاجه الفكري وتحركه الاجتماعي ولكنه لم يكن كذلك مما يدل وفق السياقات البشرية على انه لم يكن ياتي بشيء من تلقاء نفسه او من وجدانه او من ذاته او من كلامه النفسي كما زعموا بل كان واسطة الرحمة الالهية للبشر ورسول الله وخاتم الانبياء وصاحب الشريعة السماوية الخالدة. فكل ما جاء به انما هو من الله سبحانه.

وقد كتب الدكتور حسام الالوسي في كتابه (الفلسفة والانسان) في معرض حديثه عن سبب ظاهرة التفلسف عند الفلاسفة ، ما نصّه: (يذكر وليم جيمس في كتابه "بعض مشكلات الفلسفة" ان شوبنهاور يرجع اصل التفلسف الى تأمل الانسان لوجوده وللعالم ، وعلى حد تعبير شوبنهاور في كتابه "العالم كارادة وتصور" انه بصرف النظر عن الانسان – ليس ثمة موجود يتساءل عن وجوده. وحين يغدو الانسان واعياً لاول مرة يسلم بوجود ذاته تسليمه بشيء لا يحتاج تفسير. ولا يستمر الامر على ذلك طويلاً ذلك لأنه مع نشأة التأمل يبدأ التساؤل والتساؤل ام الميتافيزيقا ، وهو الذي جعل ارسطو يقول: ان الناس – الآن ودائماً – يسعون الى التفلسف بسبب الدهشة. وكلما كان الانسان ادنى في مرتبة التفكير كان تساؤله اقل عن لغز الوجود .. ولكن كلما زاد وعي الانسان اتضاحاً بدت له المشكلة اعظم ما تكون) الى ان يقول: (ويعلق وليم جيمس: "لا يتطلب الامر من الانسان اكثر من ان يغلق نفسه في صومعته ويشرع في التأمل في واقع وجوده وفي شكل جسمه ..)[1]

اما الفلاسفة وتاملاتهم ونتاجهم الفكري فقد نحى منحى بعيداً عما جاء به الاسلام ، فالاسلام جاء بكم هائل من ضخ القوة الروحية في الانسان كما جاء في الوقت نفسه بانظمة اجتماعية واقتصادية وسياسية وقضائية رصينة ، وجاء بكتاب معجز هو كلام الله سبحانه وهو كتاب متلائم مع جميع العصور. ومن سمات تلائم القرآن الكريم مع جميع العصور انه بتطور النظريات الاجتماعية والعلمية نجد انها لا تتقاطع مع القرآن الكريم بل على العكس يمكن الاستشهاد بآيات قرآنية لتبيان ملائمته للمكتشفات العلمية الحديثة ، ونجد ذلك واضحاً في تطور علوم الجيويلوجيا والفضاء وتشريح جسم الانسان والطب. فالقرآن الكريم ليس مصدراً علمياً حتى نأخذ منه الكيمياء والفيزياء وبقية العلوم بل هو كتاب هداية للبشر فيما يتعلق بامر دنياهم وآخرتهم معاً. ومع ذلك فتطور العلوم يواكب القرآن ولا يتعارض معه بخلاف ما كان يحدث من اصطدام بين الكنيسة والمكتشفات العلمية في القرون الوسطى في اوربا.

نعود في حديثنا الى نتاج الفلاسفة حيث نجد ان ديكارت على سبيل المثال قد اطلق الشك في كل شيء الا في انه يفكر ، فشك في حواسه وفي العالم كله من حوله ولم يثق الا في كونه يفكر واستدل بتفكيره على وجوده حتى لو كان تفكيره منحصراً بشكه في كل شيء ! فكانت عبارته الشهيرة (انا افكر اذن انا موجود) ، لكنه لم يتمكن ان يخبرنا فائدة وجوده وهو محاط بكل تلك الشكوك ، واي فائدة ستجنيها البشرية من شكه هذا وضعف الثقة الذي يصبه في اذهان مستمعيه وقارئيه !

اما سارتر اشهر فلاسفة الوجودية في عصرنا الحاضر فزعم استناداً الى نظرته الالحادية ان وجود الانسان سبق ماهيته ! وحتى اذا اردنا مناقشة فكرته هذه من زاويته الالحادية – على سبيل الاحتجاج – نجد انه على اقل تقدير فان وجود الانسان مترافق مع ماهيته وليس سابق لها فلا يتخلف احدهما عن الاخر. والعلم الحديث يبين فساد رأي سارتر وخطأه لاسيما في الخمسين سنة الاخيرة حيث تطور علم الجينات الوراثية (الـ DNA) والذي يبين بوضوح ان لحظة ولادة الانسان ترافقها وجود لتركيبته الوراثية التي تحدد ماهيته ، فماهيته ووجوده لا يفترقان. فلم يعد بإمكان الوجوديين ترديد كلمات سارتر الغبية بان وجود الانسان يسبق ماهيته. طبعاً كما اسلفنا هذا بفرض نظرتهم الالحادية وهي نظرة متهرئة يثبت بطلانها بديهيات الحياة والكون ونظامه العجيب بالاضافة الى المعجزات والرسالات الالهية المؤكدة. نعم ان وجود الله سبحانه هو امر بديهي.

ولسنا هنا بصدد تقييم فلسفي لتلك الفلسفات المذكورة اذ ان للفلسفة روادها وخبرائها انما ما اردنا بيانه هو ان حياة النبي (صلى الله عليه وآله) ونهجه في اعتكافه التعبدي وتأمله وتفكره في الوجود والحياة وما تلاه من حمل الرسالة الالهية وتبليغها للبشرية انما هو منهج بعيد عن اسلوب الناس المتأملين للحياة والوجود والذين ينتهي بهم المطاف الى عالم الفلسفة والتفلسف ، ولو لم يكن محمد (صلى الله عليه وآله) نبياً حقاً لربما سار على نفس نهج الفلاسفة المذكورين.

 

اما القرآن الكريم ، هذا الكتاب الالهي العظيم فهو كتاب كل العصور ، فالاعجاز الذي تضمنه يثبت اصالته. ولا نقصد الاعجاز البلاغي فقط فصنوف الاعجاز في القرآن الكريم عديدة ، وربما نتمكن ان نذكر منها ان القرآن العظيم جاء بأسس اخلاقية واجتماعية صنعت امة متحضرة كانت غارقة في الجهل والتخلف والتناحر. وما زال القرآن الكريم قادراً على اعادة صنع الامة بنفس المواصفات الاخلاقية العظيمة اذا عادت الامة اليه والى العمل به وفق المنهج الاسلامي الصحيح ، منهج الثقلين: الكتاب والعترة الطاهرة.

واما المعجزة البلاغية في القرآن الكريم فقد اذعن لها العرب الفصحاء ايام مجد فصاحتهم وقوة بيانهم ، اذعن الجميع بدون استثناء الى ان بلاغة القرآن الكريم لا يمكن ان يصل اليها احد منهم. وحتى علماء المسيحية من العرب لم يكونوا خارج دائرة الاذعان ، فلم يصدر عن اي منهم ولا سيما القدماء المتضلعين في اللغة العربية انهم تمكنوا من معارضة القرآن او الاتيان بآيات مثله. لقد تحدى القرآن العظيم الجميع وفشل الجميع في قبول تحديه.

وقد يثير البعض شبهة ان القرآن الكريم هو بلغة العرب فمن غير المعقول تحدي بقية الاقوام الذين لا يحسنون اللغة العربية بالاتيان بمثل بلاغته ! وشبهتهم هذه متهافتة لأن القرآن الكريم لم يقصر تحديه على الجانب اللغوي والبلاغي فقد كان التحدي عاماً لجميع جوانبه اللغوية والتشريعية والاخلاقية والاجتماعية فالقرآن الكريم فيه اعجاز بلاغي واعجاز غيبي (بالاخبار عن قضايا غيبية تحققت فعلاً في عالم الواقع) واعجاز بالاتيان بالنظم الاجتماعية ومسببات الهدى والصلاح والرشاد مما لا يتمكن احد من الاتيان بها ، فما كان تحدياً بلاغياً فهو يخص العرب منهم وما كان تحدياً بمعارفه فهو يخص العرب والعجم. وفي هذا الصدد يقول السيد محمد حسين الطباطبائي في تفسير الميزان ، ج1 ص59: (فجميع التحديات الواقعة في القرآن نحو استدلال على كون القرآن معجزة خارقة من عند الله ، والآيات المشتملة على التحدي مختلفة في العموم والخصوص ومن أعمها تحديا قوله تعالى : ( قل لئن إجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ) الاسراء - 88 ، والآية مكية وفيها من عموم التحدي ما لا يرتاب فيه ذو مسكة . فلو كان التحدي ببلاغة بيان القرآن وجزالة اسلوبه فقط لم يتعد التحدي قوما خاصا وهم العرب العرباء من الجاهليين والمخضرمين قبل اختلاط اللسان وفساده ، وقد قرع بالآية أسماع الانس والجن . وكذا غير البلاغة والجزالة من كل صفة خاصة إشتمل عليها القرآن كالمعارف الحقيقية والاخلاق الفاضلة والاحكام التشريعية والاخبار المغيبة ومعارف اخرى لم يكشف البشر حين النزول عن وجهها النقاب إلى غير ذلك ، كل واحد منها مما يعرفه بعض الثقلين دون جميعهم ، فإطلاق التحدي على الثقلين ليس إلا في جميع ما يمكن فيه التفاضل في الصفات . فالقرآن آية للبليغ في بلاغته وفصاحته ، وللحكيم في حكمته ، وللعالم في علمه وللاجتماعي في اجتماعه ، وللمقنين في تقنينهم وللسياسيين في سياستهم ، وللحكام في حكومتهم ، ولجميع العالمين فيما لا ينالونه جميعا كالغيب والاختلاف في الحكم والعلم والبيان . ومن هنا يظهر أن القرآن يدعي عموم إعجازه من جميع الجهات من حيث كونه اعجازا لكل فرد من الانس والجن من عامة أو خاصة أو عالم أو جاهل أو رجل أو امرأة أو فاضل بارع في فضله أو مفضول إذا كان ذا لب يشعر بالقول ، فان الانسان مفطور على الشعور بالفضيلة وإدراك الزيادة والنقيصة فيها ، فلكل إنسان أن يتأمل ما يعرفه من الفضيلة في نفسه أو في غيره من أهله ثم يقيس ما أدركه منها إلى ما يشتمل عليه القرآن فيقضي بالحق والنصفة ، فهل يتأتى القوة البشرية أن يختلق معارف إلهية مبرهنة تقابل ما أتى به القرآن وتماثله في الحقيقة ؟ وهل يمكنها أن تاتي بأخلاق مبنية على أساس الحقائق تعادل ما أتى به القرآن في الصفاء والفضيلة ؟ وهل يمكنها أن يشرع أحكاما تامة فقهية تحصي جميع أعمال البشر من غير اختلاف يؤدي إلى التناقض مع حفظ روح التوحيد وكلمة التقوى في كل حكم ونتيجته ، وسريان الطهارة في أصله وفرعه ؟ وهل يمكن أن يصدر هذا الاحصاء العجيب والاتقان الغريب من رجل امي لم يترب إلا في حجر قوم حظهم من الانسانية على مزاياها التي لا تحصى وكمالاتها التي لا تغيا أن يرتزقوا بالغارات الغزوات ونهب الاموال وأن يئدوا البنات ويقتلوا الاولاد خشية إملاق ويفتخروا بالآباء وينكحوا الامهات ويتباهوا بالفجور ويذموا العلم ويتظاهروا بالجهل وهم على أنفتهم وحميتهم الكاذبة اذلاء لكل مستذل وخطفة لكل خاطف فيوما لليمن ويوما للحبشة ويوما للروم ويوما للفرس ؟ فهذا حال عرب الحجاز في الجاهلية . وهل يجتري عاقل على أن يأتي بكتاب يدعيه هدى للعالمين ثم يودعه أخبارا في الغيب مما مضى ويستقبل وفيمن خلت من الامم وفيمن سيقدم منهم لا بالواحد والاثنين في أبواب مختلفة من القصص والملاحم والمغيبات المستقبلة ثم لا يتخلف شئ منها عن صراط الصدق ؟ . وهل يتمكن إنسان وهو أحد أجزاء نشأة الطبيعة المادية ، والدار دار التحول والتكامل ، أن يداخل في كل شأن من شئون العالم الانساني ويلقي إلى الدنيا معارف وعلوما وقوانين وحكما ومواعظ وأمثالا وقصصا في كل ما دق وجل ثم لا يختلف حاله في شئ منها في الكمال والنقص وهي متدرجة الوجود متفرقة الالقاء وفيها ما ظهر ثم تكرر وفيها فروع متفرعة على أصولها ؟ هذا مع ما نراه أن كل إنسان لا يبقى من حيث كمال العمل ونقصه على حال واحدة . فالانسان اللبيب القادر على تعقل هذه المعاني لا يشك في أن هذه المزايا الكلية وغيرها مما يشتمل عليه القرآن الشريف كلها فوق القوة البشرية ووراء الوسائل الطبيعية المادية وان لم يقدر على ذلك فلم يضل في انسانيته ولم ينس ما يحكم به وجدانه الفطري أن يراجع فيما لا يحسن إختباره ويجهل مأخذه إلى أهل الخبرة به).

 

ويضاف لذلك حقيقة ان الاساليب البلاغية الموجودة في اللغة العربية لها نظيراتها في اللغات الاخرى ، فوجود بعض الجوانب البلاغية كالتشبيه والاستعارة والمحسنات وغيرها هو وجود معروف في لغات اخرى كالانكليزية والفرنسية وغيرهما ، فمن يزعم ان القرآن الكريم بعظمته البلاغية هو من نتاج محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله) فعليه ان يعلل عجز بقية العرب عن الاتيان بقرآن آخر له نفس مستوى بلاغته كما ان على من يزعم ذلك ان يعلل عجز بقية الاقوام عن الاتيان بكتاب مقدس بلغاتهم تلك فيها اساليب بلاغية اعجازية بنفس مستوى اعجاز القرآن الكريم ولكن في لغاتهم مقارنة مع النتاجات البشرية في نفس تلك اللغات. بل حتى الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد ليس فيه اساليب بلاغية رصينة اعجازية يمكن الاعتماد عليها باعتبارها دليل على انها سماوية المصدر وانها تحاجج بقية النصوص في نفس تلك اللغات التي كتب بها وتتفوق عليها. اذن البلاغة القرآنية فريدة على مستوى اللسان العربي وكذلك على مستوى بقية الالسن التي عجزت عن الاتيان بكتاب مقدس يتفوق على بقية نتاجاتها الثقافية من الناحية البلاغية فبقيت الاساليب البلاغية في تلك النصوص مشتتة البلاغة.

فمن نماذج وجود الاساليب البلاغية في اللغات الاخرى هي الدراسات النقدية البلاغية ككتاب: « في الاستعارات» (Des tropes) المنشور سنة 1730 لمؤلفه دومارسي (Dumarsais)، وكتاب «أساليب الخطاب» (Les figures du discours) المنشور سنة 1830 لمؤلفـه بييـر فونطانيي (P. Fontainier) (2). وكتاب (البلاغة: المدخل لدراسة الصور البيانية) لفرانسوا مورو الاستاذ بجامعة تولوز وهو يتحدث عن بعض الجوانب البلاغية في اللغة الفرنسية.

اما بخصوص الادب الانكليزي فنقرأ في ويكيبيدا الموسوعة الحرة: (يرقى الأدب الإنكليزي إلى القرنين الخامس والسادس للميلاد. وأقدم ما وصل إلينا منه ملحمة بَيْوُولف Beowulf. ومن هنا نستطيع القول إن الشعر عند الإنكليز، شأنَهُ عند الأمم الأخرى، كان أسبقَ إلى الظهور من النثر. وفي القرن الرابع عشر ظهر تشوسر Chaucer الذي يُعتبر أبا اللغة الإنكليزية الحديثة)[2].

ونموذج آخر هو الشاعر والاديب الروسي الكبير الكسندر بوشكين الذي كان يبدي اعجاباً شديداً بالقرآن الكريم ، وهو قد قرأ القرآن الكريم من خلال (ترجمة فيريوفكين 1790 الذي قام بترجمته من اللغة الفرنسية. وكان قد نقله إلى الفرنسية ديوريه. وبصدد ترجمة فيريوفكين، يقول كراتشوفسكي: "تعتبر ترجمة فيريوفكين للقرآن أفضل ترجمة، إذ تتمتع بلغة أدبية رفيعة" {كراتشوفسكي، مؤلفات مختارة، موسكو ـ ليننغراد 1955 المجلد 1 ـ ص 180}. والذي يهمنا هنا ، أن بوشكين استخدم هذه الترجمة أساساً لقصيدته)[3]. ومن خلال اطلاعه على هذه الترجمة للقرآن الكريم كتب بوشكين قصيدته (محاكاة القرآن) والتي اراد منها كما يقول بعض النقاد ان يقلد ظاهر القرآن الكريم - شكل القرآن وإيقاعاته وموسيقاه بحسب تعبيرهم - ولكن مع ذلك كان الفرق كبير بين محاكاة بوشكين وبين القرآن الكريم. وحتى بوشكين هذا لم يتمكن ان يأتي بكتاب يدعي فيه انه القمة في البلاغة في اللغة الروسية بحيث يكون ما عداه اقل بلاغة منه ولا يمكن ان يرقى اليه.

ومن جانب آخر فهناك دراسات جادة حول ترجمة الجوانب البلاغية في القرآن الكريم الى لغات اخرى احداها رسالة جامعية معنونة (قابلية التعابير البلاغية والثقافية للترجمة في ضوء دراسة تراجم معاني القرآن الكريم إلى اللغة الإنجليزية) ، للباحث الدكتور أحمد عبد العزيز مهيوب العباسي ، "تبحث هذه الدراسة موضوع إمكانية ترجمة التعابير البلاغية والثقافية في القرآن الكريم وبالتحديد في سورة البقرة، و اعتمد الباحث على دراسة أربع تراجم مشهورة لمعاني القرآن الكريم إلى اللغة الإنجليزية وهي ترجمة كل من عبد الله يوسف علي, بيكثول, ايرفنج وترجمة خان والهلالي حيث تم مقارنة هذه التراجم بما ورد في تقسيري القرطبي والزمخشري. وتهدف الدراسة إلى البحث عن كيفية تعامل التراجم الأربع قيد الدراسة مع التعابير البلاغية والثقافية حيث يرى الباحث أنه وعلى الرغم من أهمية  التعابير البلاغية والثقافية كونها تمثل جزءا اساسيا من المحتوى المعرفي للقرآن الكريم, فإنها لم تتلق الإهتمام الكافي واللائق من قبل مترجمي معاني القرأن الكريم إلى الإنجليزية. ويتلخص الهدف الرئيسي للدراسة في تسليط الضوء على وجود الحاجة الماسة  لترجمة متميزة لمعاني الفرآن الكريم تتسم بالفاعلية والدقة والموسوعية والقدرة التعبيرية المؤثرة حيث يجب ان تشتمل هذه الترجمة على كل الجوانب المعرفية للقرآن بما فيها التعابير البلاغية والثقافية"[4]. وهذه الدراسة تبين بوضوح ان جميع اللغات لها مشتركات بلاغية متقاربة بحيث يتمكن من ترجمة الجوانب البلاغية في اللغة العربية الى لغات اخرى كاللغة الانكليزية وغيرها.

 

ومن جانب آخر ، تبقى الدعوات الى نبذ العمل بالقرآن العظيم عاجزة عن تقديم بديل واقعي وحقيقي فكل الانظمة الاجتماعية والاقتصادية التي يقدمها الغرب ما زالت عاجزة عن ايجاد حلول حقيقية لمشاكل الناس ومازالت تلك الانظمة تكشف عن ضعفها وافتقارها الى الاستقرار والديمومة. لقد تهاوت النظرية الشيوعية واسقطت معها اكبر دولة عظمى قامت على اساسها الا وهي دولة الاتحاد السوفيتي. وعجز النظام الرأسمالي عن تقديم العدالة والقضاء على الفقر بين الناس بل ازدادت الفوارق الطبقية في ظله حتى بدانا اليوم نشهد آلاف المظاهرات الاحتجاجية ضده في مختلف عواصم العالم وقد بدأت اول امرها في الولايات المتحدة الامريكية يوم 17 ايلول/ سبتمبر 2011م بمظاهرات اطلقت على نفسها اسم (حركة احتلوا وول ستريت) في اشارة الى المركز المالي الحيوي هناك ثم توسعت لتصبح حركة عالمية شملت اكثر من 100 مدينة في العالم يوم 15 تشرين الاول/ اكتوبر من السنة نفسها واصبحت تعرف بـ (احتجاجات إحتلوا Occupy protests أو احتجاجات الغضبانين Indignants protests).

خلاصة القول ان القرآن العظيم هو كلام الله سبحانه وهو الوحي الدائم الوجود بين الناس وما على الناس للخلاص من واقعهم الفاسد ومن مشاكلهم الفردية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية الا الرجوع اليه والتمسك به والعمل باحكامه العادلة من خلال الوصية النبوية الخالدة التي بينت للناس بأنَّ الامن من الضلال انما يكون بالتمسك بالقرآن الكريم والعترة الطاهرة.

قال تعالى: ((إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً)). صدق الله العليُّ العظيم.

 

 



[1] الفلسفة والانسان / الدكتور حسام الآلوسي / منشورات دار الحكمة ، بغداد 1990 – ص21.

[2] منشور في شبكة الانترنيت عبر الرابط:

http://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A3%D8%AF%D8%A8_%D8%A5%D9%86%D8%AC%D9%84%D9%8A%D8%B2%D9%8A

[3] مقال بعنوان (بوشكين وَالقرآن) بقلم مالك صقور / منشور في مجلة الموقف الأدبي - مجلة أدبية شهرية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق - العدد 113 أيلول "سبتمبر" 1980 – يمكن الاطلاع على المقال من خلال الرابط:

 http://www.awu-dam.org/mokifadaby/113/mokf113-008.htm#_edn14

[4] منشور في موقع (المركز الوطني للمعلومات) التابع لرئاسة الجمهورية في جمهورية اليمن ، تجدونه من خلال الرابط:

http://www.yemen-nic.info/contents/studies/detail.php?ID=16661

 

نبيل محمد حسن

14 juin 2012

تهافـت مزاعم تاريخية القرآن

بسم الله الرحمن الرحيم

يزعم بعض المستشرقين والحداثيين بان القرآن كتاب تاريخي ظهر في فترة تاريخية معينة واحكامه تصلح لفترة معينة لا تتعداها وهذا ما يسمونه بتاريخانية القرآن.

ان مقولة تاريخية القرآن لا يمكن ان تصمد امام النقد ، فقوله تعالى: ((اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً )) يخاطب فيه المسلمين بمختلف اجيالهم الحاضرة القادمة فمن المعلوم ان الاسلام وشريعته الخالدة لم يكن للجيل الاسلامي الاول حصراً بل هو لكل الاجيال اللاحقة ولا يوجد ادنى احتمال ان الاسلام كان لفترة محدودة ولو كان ذلك حقاً لأخبرنا الله سبحانه به اذ ان كل قانون في العالم حينما يشرع يبقى مستمراً الى ان يحل قانون آخر بدلاً عنه ، وعلى هذا بنيت سيرة البشر. فاذا لم يكن الاسلام لكل زمان فيجب ان يظهر اسلام جديد من عند الله سبحانه لزمان قادم آخر ولوجب ان يظهر قرآن آخر ونبي جديد كدليل على حاجة العصر الجديد الى دين جديد ، لأن نفس دوافع ومبررات ظهور الاسلام ستظهر من جديد لو لم يكن الاسلام هو خاتم الاديان. اذن لم يظهر دين سماوي جديد بعد الاسلام ، فلا نبي جديد ولا قرآن جديد ولا اسلام جديد انما هو اسلام واحد من عند الواحد اكمله واتمه وارتضاه لنا.

وورد عن الامام الباقر (عليه السلام) انه قال: (ولو ان الآية اذا انزلت في قوم ثم مات اولئك القوم ماتت الآية لما بقي من القرآن شيء ، ولكن القرآن يجري اوله على آخره ما دامت السماوات والارض)[1].

وفي حديث آخر مروي عن الامام الصادق (عليه السلام) انه قال: (حلال محمد حلال ابداً الى يوم القيامة وحرامه حرام ابداً الى يوم القيامة ، لا يكون غيره ولا يجيء غيره)[2].

ومما يستند اليه البعض في القول بتاريخية القرآن الكريم قولهم ان هناك في القرآن الكريم آيات عديدة مرتبطة بحوادث حدثت في زمن النزول ، مثل معركة بدر وعداوة ابي لهب للاسلام والصراع بين الفرس والروم وسؤال بعض المسلمين عن قضايا معينة فتنزل آيات تبدأ بقوله تعالى: ((ويسألونك ...)) ، ويزعمون ـ كما في بسط التجربة النبوية لسروش – ان عمر النبي (صلى الله عليه وآله) لو امتد اكثر لوجدنا عندنا قرآنا ضعف هذا الحجم الموجود لدينا اليوم !! وزعمهم هذا مبني على ان القرآن الكريم هو من نتاج النبي محمد (صلى الله عليه وآله) وليس كلام الله سبحانه ، ولذلك فالنقاش معهم يجب ان ينطلق من بيان حقيقة ان محمداً (صلى الله عليه وآله) هو رسول الله وان القرآن الكريم هو كلام الله عزَّ وجل وهو الكتاب الذي ما يزال اعجازه يدل على صدق انتسابه لله جل وعلا الى يومنا هذا ، ورغم التطور العلمي وتوسع العلوم بمختلف صنوفها ولا سيما اللغوية والفلسفية والاجتماعية والقانونية نجد ان الجميع ما زالوا عاجزين عن معارضة القرآن الكريم والاتيان بما يبين انه يمكن ان يكون منتجاً بشرياً وليس الهياً.

يضاف لما سبق ان القرآن الكريم قد توقف نزوله فترة معتد بها قبل وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) لاسيما بعد نزول آية اكتمال الدين يوم الغدير ، فقول سروش انه لولا وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) لاستمر نزول القرآن ولتضاعف حجم القرآن هو قول بلا علم وبلا تدبر للتاريخ والتشريع الاسلامي.

ان مما فات القائلين بتاريخية القرآن الانتباه اليه ان الايات الكريمة التي نزلت لسبب محدد هي آيات قليلة العدد من جهة ومن جهة اخرى فان وجود سبب لنزولها لا تعني انها متعلقة بذلك السبب فحسب ، مثلا آية (( ويسالونك عن اليتامى )) تخص جميع اليتامى حتى اولئك الذين لم يكونوا سببا لنزول النص في ذلك الزمن وكذلك الازمان اللاحقة ، فعمومية لفظ الاية الكريمة تدل على شمولها للجميع بدون استثناء. وكذلك سبب نزول قوله تعالى: (( قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها )) وقوله تعالى: (( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله امواتاً )) هي لكل الاشخاص في ذلك الزمن وغيره ايضاً وليس لزمن محدد.

ومن جهة اخرى فهل من المعقول ان يكون القرآن من نتاج محمد (صلى الله عليه وآله) ثم يقول في سورة الحاقة: ((وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ ، لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوَتِينَ ، فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ )) !

وربما يقول قائل بان هناك تشريعات اسلامية سببها الظروف الاجتماعية لعصر النبوة مثل اقرار الرق وللذكر مثل حظ الانثيين ورجم الزاني وقتل المرتد ! فمثلا في عصرنا الحاضر نجد ان المراة اصبحت عاملة ومعيلة لاسرتها لاسيما بسبب الحروب والحوادث الارهابية وكثرة الاغتيالات للرجال وازدياد نسبة الارامل ، فلماذا ترث الارملة نصف ما يرثه اخوها ! لقد فات هؤلاء ان التشريع الاسلامي هو تشريع عام لكل زمان ومكان ، فوجود حالات خاصة تسترعي العطف والرعاية كوجود الارامل والايتام لا يعني ان يتم تغيير التشريع بحسب الحالات الخاصة ، بل نجد ان الاسلام راعى ايضاً تلك الحالات الخاصة وادارة شؤونها بطريق آخر غير طريق الارث فجعل من مسؤولية الدولة الاسلامية رعاية الايتام والارامل من بيت مال المسلمين ومن مال الزكاة والخمس والضرائب المقرة شرعياً ومن مواردها الاخرى. اذن الاسلام جاء بمنظومة كاملة تصلح لتطبيقها لكل حالات المجتمع ولكل زمان ومكان ، ولا يصلح ان نقول بان تطور الحياة وصعوبتها يجعل تطبيق المواريث الاسلامية غير منصف بل ان عدم الانصاف يأتي من عدم تطبيق مجمل الشريعة الاسلامية. فمن يرثى لحال الارامل والايتام عليه ان يطالب الدولة برعايتهم لا ان يلجأ الى المطالبة بتغيير شرع الله عز وجل بما لا يكون حلا حقيقياً للمشكلة فكم من ارملة لم ترث من ابيها شيئاً في نفس البلاد التي تجعلها ترث بقدر اخيها وفق القوانين الوضعية العلمانية ، فليس كل الاباء والامهات يتركون مالاً لبناتهم الارامل.

اما بخصوص احكام الرق فالجميع يعلم ان الاسلام لم يشرع الرق بل كان الرق موجوداً حين ظهور الاسلام ، فوضع الاسلام قنوات عديدة للحد من ظاهرة الرق عبر فتح منافذ اعتاقهم على مصراعيها ، ورب قائل يقول ان موضوع الرق موضوع قديم ونحن في زماننا هذا لم نعد نحتاجه فهو من التشريعات التاريخية التي لم نعد بحاجة لها الآن ! وهذا الاعتراض قد يتقدم به من لم يتدبر مجريات الحياة جيداً ، فالرق ما زال على نحو ضيق في بعض البلاد وبصورة خفية ، كما اننا لا نملك ضمانا لعدم ظهور ظروف عالمية جديدة تؤدي الى ظهور الرق من جديد لا سيما في حالة انهيار النظام العالمي والتوازانات الدولية الحالية وهو امر متوقع حدوثة في كل وقت ، فلا دوام لنظام عالمي كما توهم فوكوياما في كتابه الشهير نهاية التاريخ ! ومع ظهور الازمات الاقتصادية الحالية العالمية وعصفها باقتصاد كبريات الدول ومع ظهور دول جديدة عظمى كالصين وانهيار اخرى كالاتحاد السوفيتي وظهور آفاق ازمات سياسية واقصادية حادة على المستوى العالمي يجعل من احتمال تبدل الانظمة العالمية وظهور مشكلة الرق من جديد قائماً ولذلك من عدم الحكمة الغائها من قبل دين عظيم وحكيم كالدين الاسلامي الذي جعله الله سبحانه للناس كافة. غاية ما في الامر ان الاسلام لم يحث على تشريع الرق بل عمل على تحريره بشتى الطرق وبما يراعي الحالة الانسانية للرقيق وضرورات توفير الطعام والملبس والمأوى لهم بصورة دائمية لانها الحد الادنى من ضرورات الحياة.

ان مقولة تاريخية القرآن لا يمكن ان تكون حلاً حقيقياً لمشاكل الناس لان غاية ما يريده اولئك المطالبون باشاعة القول بتاريخية القرآن هو ابطال احكام قتل المرتد فيسهل التبشير بالنصرانية في بلاد المسلمين ، وكذلك من نتاجها اشاعة الزنى واختلاط الانساب حيث لا عقوبة للزاني والزانية فيبدأ المجتمع بالتفكك والانحراف والتهاوي والسقوط الى احضان الرذيلة ، فلا برٌ لوالدين ولا صلةٌ للرحم ، فتسود الفرد والعائلة الضياع والتشتت ويتم فرض قيم الحياة الغربية على المجتمع الاسلامي المحافظ ، فالفاحشة في كل مكان والبنات والنساء وسائل رخيصة للدعاية لمنتجات الاغراء والمكياج وملابس الموضة ، وتنتعش تجارة الخمور في بلاد المسلمين على نحو اوسع واكثر خطراً وجدية في مقابل ارتفاع ارصدة الشركات المنتجة للخمور والمتاجرة بها ! وهدف كل ذلك جمع المزيد من الاموال لصالح تلك الشركات الغربية التي لا تجد لها سوقا رائجة في بلاد المسلمين الا بالعمل على تحطيم القيم الاخلاقية للمجتمعات المسلمة.

ومن نتائج مقولة تاريخية القرآن هو القبول بالربا والمصارف والشركات الربوية والقطاع الخاص الربوي ، فيسود التعامل به في بلاد المسلمين على نحو اوسع مما يجري الآن تحت ستار الاعمال المصرفية حصراً ! وهل ينتج الربا الا المزيد من الفقر للفقراء والمزيد من الغنى للاغنياء على المستوى الفردي ، فغني واحد يمكن ان يساهم بزيادة فقر عشرات الاشخاص وامتصاص دمائهم وقوتهم ! اما على المستوى العام فهو آفة تتهدد الاقتصاد العالمي ونحن قد رأينا مضار الربا في السنوات الاخيرة ولاسيما منذ سنة 2008م نتيجة الانهيار الاقتصادي والكساد الذي حدث في امريكا والذي ادى الى فوضى وكساد في الاقتصادي العالمي كله نتيجة التعاملات الربوية للمصارف في تجارة العقارات.

انهم يريدون ان يبطلوا العمل بالاحكام والقوانين الاسلامية لصالح القوانين الوضعية التي بدأت تقود عالمهم نحو التردي الاخلاقي والتفكك العائلي والاجتماعي والانهيار الاقتصادي !!



[1] بحار الانوار / الشيخ المجلسي (قدس سره) – ج89 ص115.

[2]  الاصول من الكافي / الشيخ الكليني (قدس سره) – ج1 ص58.

 

 

نبيل محمد حسن

14 juin 2012

بين الدواغمائية والرسوخ العقائدي

 بسم الله الرحمن الرحيم 

من الواضح ان مصطلح الدوغمائية لا يقتصر على وصف اشخاص ذوي خلفيات فكرية معينة رغم انه غالباً ـ إنْ لم يكن دائماً ـ ما يوصف به الاشخاص ذوي الخلفية الفكرية الدينية حيث يتم وصفهم بها من قبل الحداثويين والعلمانيين ! ولكن لو امعنا النظر قليلاً لوجدنا ان مصطلح الدوغمائية هو مصطلح عام لكل انسان يمتلك فكراً دون ان يمتلك نواصيه ومرتكزاته وادلته والبراهين عليه ، وبناءاً على ذلك فلا يخلو الحداثويين من امكانية وصفهم بها.
فما هي الدوغمائية Dogma ؟
هي كلمة يونانية بمعنى الرأي او المعتقد الاوحد. ويفضل المفكر الامريكي ميلتون روكيش فيما يخص مفهوم الدوغمائية استخدام مصطلح (نظام العقائد أو الايمان) بدلاً من التحدث عن نظام آيديولوجي يرتبط به العقل الدوغمائي ، اي ان العقلية الدوغمائية ترتكز اساساً على ثنائية ضدية حادة هي: نظام من الايمان والعقائد ونظام من اللاايمان واللاعقائد ، اي انها ترتبط بشدة وبصرامة بمجموعة من المباديء العقائدية وترفض بنفس الشدة والصرامة مجموعة أخرى وتعتبرها لاغية لا معنى لها ، ولذلك فهي تدخل في دائرة ممنوع التفكير فيه أو مستحيل التفكير فيه وتتراكم بمرور الزمن والاجيال على هيئة لا مُفكَّر فيه .وعرّف روكيش مفهوم الصرامة العقلية بأنها عدم قدرة الشخص على تغيير جهازه الفكري أو العقلي عندما تتطلب الشروط الموضوعية ذلك وعدم القدرة على اعادة ترتيب أو تركيب حقل ما تتواجد فيه عدة حلول لمشكلة واحدة وذلك بهدف حل هذه المشكلة بفاعلية اكبر .
ان الحد الفاصل بين الدوغمائية والرسوخ العقائدي ينمحي حينما يكون البناء العقائدي خاوٍ من الادلة العقلية والمنطقية والنقلية الصحيحة. اذن فلا حرج ان يكون الانسان ذا رسوخ عقائدي مبني على الادلة المعتبرة. لكن ان يكون هناك تبني للعقيدة بلا مستند او دليل معتبر فهنا تظهر الخشية من تحول الرسوخ العقائدي الى عقيدة دوغمائية.
فلننظر الى الدوغمائية ونقارن مظاهرها مع مظاهر الرسوخ العقائدي لنتبين الفرق الشاسع بينهما.
يشرح الدكتور هاشم صالح في مقدمته المشار اليها في الهامش نظرية روكيش فيقول ان اركان الدوغمائية ثلاثة:
1. انه عبارة عن تشكيلة معرفية مغلقة قليلاً أو كثيراً ومشكلة من العقائد واللاعقائد (أو القناعات واللاقناعات) الخاصة بالواقع.
2. إنه متمحور حول لعبة مركزية من القناعات (أو الايمانات اليقينية) ذات الخصوصية الخاصة والاهمية المطلقة.
3. انه يولّد سلسلة من أشكال التسامح واللاتسامح تجاه الآخر.
ويضيف مستمراً في شرح نظرية روكيش ان درجة الدوغمائية ومبلغ حدتها (ذلك ان الاشخاص الدوغمائيين ليسوا دوغمائيين بنفس الدرجة ونفس المستوى) الخاصة بتشكيلة معرفية معينة يمكن قياسها طبقاً لمعايير خمسة هي:
أ‌. إنَّ تشكيلة معرفية معينة (أو نظاماً معرفياً معيناً) تكون دوغمائية بقدر ما تضع حاجزاً كثيفاً معتماً يفصل بين نظام الايمان والعقائد / ونظام اللاايمان واللاعقائد الخاص بها. وهناك اربعة اساليب لتحقيق هذا الفصل او هذا العزل هي: 1- التشديد التكتيكي على اهمية الخلافات الموجودة بين نظام الايمان والعقائد / ونظام اللاايمان واللاعقائد. 2- التاكيد باستمرار على عدم صحة المحاجة التي تخلط بينهما. 3- انكار ثم احتقار الوقائع التي قد تظهر وتناقض هذه العقائد والايمانات. 4- المقدرة على قبول تعايش التناقضات داخل نظام الايمانات والعقائد بدون الاحساس بوجود اية مشكلة.
ب‌. تكون تشكيلة معرفية ما دوغمائية بقدر ما تقوي من حدة الخلاف والشقة الواسعة بين نظام الايمانات / واللاايمانات. وهناك ثلاث طرق لتقوية الخلاف وتوسيع الشقة هي: 1- الرفض المستمر والدائم لكل محاولة توفيق او مصالحة بين النظامين المذكورين. 2- اليقين الدائم والمتزايد بأننا وحدنا نمتلك المعرفة الحقيقية. 3- ثم اليقين المرافق بخطأ نظام اللاايمانات او اللاعقائد المذكور.
ت‌. تكون تشكيلة معرفية ما دوغمائية اكثر دوغمائية كلما كانت لا تميز بين العقائد والايمانات التي ترفضها. انها ترميها جميعها ضمن كتلة واحدة في دائرة الخطأ.
ث‌. تكون تشكيلة معرفية معينة دوغمائية اكثر كلما زادت درجة اعتماد اليقينيات الهامشية على اليقينيات المركزية الاساسية. فعندما ننظر الى هذه التشكيلة المعرفية بحد ذاتها ولذاتها فإن ذلك يعني ان العقائد الهامشية تبدو بمثابة انبثاق مباشر عن العقائد المركزية. وعندما ننظر اليها من خلال علاقتها بالواقع فإن بنية معرفية كهذه تمارس دورها وظائفياً عن طريق الهضم والتمثل: اي انها تعيد تأويل الوقائع المنحرفة او المضادة للنظرية (للتشكيلة المعرفية) لكي تصبح مطابقة لمبادئها الاساسية. كما انها تمارس دورها عن طريق التقليص والتضييق: أي عن طريق تجنب كل شيء او كل منبه او حافز يزعزع تماسك النظرية ويشكك بها ، ثم عن طريق عقلنة ما هو غير عقلاني. وعندما ننظر اليها من خلال علاقتها بالهيبة أو بالسيادة فإننا نجد مصداقية هذه الهيبة تتموضع دائماً في المنطقة المركزية لنظام العقائد الايمانية. وتستطيع هذه السيادة المهابة ان تغير وتحول العقائد الهامشية أو الثانوية المحيطة كما تشاء وفي أية جهة تشاء. وهذه الظاهرة يدعوها ميلتون روكيش بـ "الاخلاص لخط الحزب".
ج‌. تكون بنية معرفية ما دوغمائية أكثر فأكثر كلما كان منظورها الزمني موجهاً بشدة نحو نقطة بؤرية أو محرقية: أي ان الحاضر محتقر باستمرار لصالح المبالغة بشأن الماضي (مفهوم العصر الذهبي) أو المستقبل (اليوطوبيا = لحظة المستقبل البعيد الذي تتحقق فيه الاحلام الوردية).

 


ولكن بمناقشة موضوعية لأركان الدوغمائية نجد:
ـ ان الاسلام المحمدي ذو رؤية منفتحة على العقائد الاخرى ، وشيوع "العقيدة المقارنة" و"الفقه المقارن" على المستوى العلمائي وعلى المستوى الشعبي بين ابنائه يدل على ان العقلية الشيعية بصورة عامة غير منغلقة على نفسها ولا ترفض الاصغاء للاخر ولا مناقشة ادلة الاتجاهات المخالفة بل هي تناقش كل الاتجاهات الاسلامية بموضوعية مستندة الى الادلة العقلية والنقلية المعتبرة.
ـ ان مركزية الثقلين ومحوريته في الفكر الشيعي ليس نابعاً من الانغلاق ولا من التعصب ولا من رفض الآخر بل هو نابع من ادلة عقلية واخرى نقلية متواترة تؤكد على ضرورة التزام محورية الثقلين في الحياة لتجنب الانزلاق وراء الافكار المخالفة للحق. وهنا نجد الافتراق بين مفهوم الدوغمائية والتعصب الاعمى المستند الى الجهل وبين مفهوم الرسوخ العقائدي المبني على ادلة حقيقية وواقعية.
ـ ليس في الاسلام المحمدي تمييز عقائدي يمنع التسامح والتعايش السلمي بين الناس ، وقد وردت آيات كريمة ونصوص عديدة وحقائق تاريخية تبين ان الاختلاف العقائدي لا يمنع من العيش المشترك بين كافة فئات المجتمع بتنوعها وكذلك ليس هناك ما يمنع رعاية الدولة الاسلامية للمختلفين معها عقائدياً ، من ابرزها قوله تعالى في سورة الممتحنة: ((لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ)) ، ورواية اعالة الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) لفقراء النصارى من بيت المال المسلمين. وفي احدى خطبه الشهيرة في نهج البلاغية عندما اغارت خيل معاوية بقيادة سفيان بن عوف الغامدي على اهل الانبار فقال عليه السلام فيما روي عنه: (هذا أخو غامد وقد وردت خيله الأنبار وقتل حسان البكري وأزال خيلكم عن مسالحا وقتل منكم رجالاً صالحين ، وقد بلغني أن الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة فينتزع إحجالها وقلبها ورعثها والأسورة والأقراط ثم انصرفوا وافرين ما كلم رجل منهم كلما فلو أن امرءاً مسلماً مات من بعدها أسفاً ما كان عندي ملوماً ، بل كان عندي بها جديراً). فتراه عليه السلام يتاثر بنفس المقدار على سلب المسلمة وسلب المعاهدة اي الذمية نصرانية او يهودية ، وهذا وجه ظاهر في ان الاختلاف العقائدي في الاسلام لا يمنع من التعايش والسلم الاهلي ويضعهم جميعاً بنفس المقدار ضمن مسؤولية الدولة وحمايتها لهم.
وينقل الاب سهيل قاشا (وهو مسيحي) في كتابه (المسيحيون في الدولة الاسلامية) ، صفحة 59 ، ما نصّه: (وقد اجاز الفقهاء التصدق على مساكين اهل الذمّة ، فقد ذكر سعيد بن المسيب ان محمد تصدق بصدقة على اهل بيت من اليهود. وروي عن ابن ميسرة قال كانوا يجمعون اليه صدقة الفطر فيعطيها او يعطي فيها للرهبان).
ومن مظاهر عدم انصياع العقلية المسلمة عند الشيعة لرفض الآخر بسبب اختلاف الفكر والعقيدة هو تعامل الدولة الاسلامية في زمن امير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام) مع قضية الخوارج وكيف ان الدولة قاتلتهم حينما كونوا جيشاً مسلحاً يهدد امنها وامن المجتمع ، ولكن حينما انتهى القتال وعاد المسلمون الى حياتهم الطبيعية ومعاشهم نجد ان الحكومة الاسلامية القائمة آنذاك تعاملت معهم باعطائهم كافة حقوقهم وحريتهم الفكرية والعقائدية ، فلم تنغلق ضدهم ولم تحرّم فكرهم ولم تمنع تواجدهم بين رعاياها. اذن لم يكن هناك تعصب ولا تعامل دوغمائي ضدهم ، فلم تعلن الدولة ان هناك عقيدة واحدة ولا مذهب واحد ولا اتجاه واحد بل كانت هناك حرية للناس في الفكر والرؤى العقائدية المختلفة ما داموا ملتزمين جميعاً بالمفهوم العيش المشترك وما دامت بيضة الاسلام محفوظة ، فتجد في تلك الفترة في الكوفة ـ كنموذج ـ الخارجي والعثماني والشيعي والنصراني واليهودي ، فلم تفرض الدولة لوناً واحداً من الفكر والعقيدة على الناس. اذن لم يعرف الفكر الشيعي رفض الاخر لا على المستوى الشخصي ولا على المستوى الشعبي ولا على مستوى الحكومة الاسلامية.
اذن اركان الدوغمائية التي يمكن اختصارها بانها:
فكر مغلق متمحور حول ايمان يقيني وغير متسامح
هذه الاركان غير موجودة في رؤية الاسلام المحمدي الذي يمكن ان نقول عنه انه:
فكر منفتح متمحور حول ايمان يقيني ومتسامح

 

اما معايير الدوغمائية الخمسة فيمكن مناقشتها وفق التالي:
ـ بالنسبة للمعيار الاول المتعلق بالفصل بين الايمان / واللاايمان فليس هذا الفصل يشكل عقبة بعد ان رأينا ان اركان الدوغمائية غير متحققة فيه. فاما اسلوب التشديد التكتيكي في الفصل بينهما فهو تشديد فكري وليس عملي حيث بينّا ان عقيدتنا متسامحة ، وأنَّ اي تشدد تكتيكي في المواضيع الفكرية لا يفيد كاسلوب من اساليب المعايير الدوغمائية ما دام منحصراً في الفكر والعقيدة ولم ينتقل الى الواقع العملي ، حيث ان الواقع العملي متسامح كما هو معلوم.
وكذلك فان اسلوب رفض الخلط بين الايمان واللاايمان يعود لحكم العقل القائل بعدم القدرة على الجميع بين النقيضين ، واما ما يحاول البعض فعله من اتخاذ اسلوب انتقائي فياخذون بعضاً من مقومات الايمان وبعضاً من مقومات اللاايمان ويكونون لأنفسهم ديناً جديداً فهذا يزيد الطين بلّة ولا يحل المشكلة لأن الانسان في اطار التوحيد لا يبحث عن دين يقترحه بنفسه ولنفسه بل يبحث عن الدين الذي يريده الله سبحانه له وللبشرية.
واما اسلوب احتقار العقائد المخالفة فهو تعبير بعيد عن الواقع فليس في العقائد احتقار انما هناك تفنيد للعقائد المبنية على ادلة ضعيفة وهشة وباطلة. وذلك انما يتم استناداً لأدلة عقلية ونقلية معتبرة. فليس هناك دوغمائية ما دام الامر يدور حول وجود دليل ومستند عقلي ومنطقي ونقلي. لأنه من المعيب ان يقال عن الفكر المبني على العقل والنقل الصحيح بانه فكر دوغمائي !
واما اسلوب المقدرة على التعايش فقد بينا ان عقيدتنا متسامحة من الناحية العملية في الحياة تجاه كل من يخالفها في الفكر او العقيدة. فلا يصح تطبيق هذا المعيار عليها.
ـ واما المعيار الثاني الذي يتحدث عن دوغمائية التشكيلة المعرفية التي تقوي حدة الخلاف بين نظامي الايمان واللاايمان ، فالحدة المذكورة انما تحدث تبعاً لدليل كل طرف ، فان كانت العقائد متقاربة بامتلاكها ادلة مشتركة لبعض قضاياها وادلة متباينة لقضايا اخرة فذلك يقلل من حدة الخلاف بخلاف ما لو كانت العقيدتان متباينتين كلياً نتيجة امتلاكهما ادلة مختلفة احداها متطابقة من العقل والمنطق والاخرى مخالفة لهما ! فالعبرة في الحدة هي الدليل والمستند ولا يمكن قبول ان توصف عقيدة بانها دوغمائية لمجرد ان دليلها القوي يختلف عن دليل العقيدة الاخرى المتهافتة في مستندها ودليلها. فحيثما وُجِدَ الدليل انتفى وجود الدوغمائية. واما موضوع امتلاك الحقيقة فهو امر طبيعي يقول به من يمتلك الدليل الاقوى. فأين الدوغمائية من ذلك اذا كان موقفنا عقلائياً ومنطقياً ؟!
ـ واما المعيار الثالث القائل بانه (تكون تشكيلة معرفية ما دوغمائية اكثر دوغمائية كلما كانت لا تميز بين العقائد والايمانات التي ترفضها. انها ترميها جميعها ضمن كتلة واحدة في دائرة الخطأ) ! فمن الواضح والمعلوم للجميع ان الاسلام لا ينظر لجميع المختلفين معه عقائدياً نظرة واحدة بل رفع بعضهم درجات على البعض الاخر ، فهناك اهل الكتاب وهم اليهود والنصارى والمجوس وهناك المشركون وعبدة الاصنام وهناك الملحدون. وحتى في داخل الاختلافات الفكرية الاسلامية هناك درجات تقييمية متفاوتة فنظرة الاسلام المحمدي لأهل السنة تختلف عن نظرته الى السلفية (الوهابية) وتختلف عن نظرته الى النواصب وهكذا. اذن الفكر الشيعي يميز وبدقة بين العقائد والايمانات التي يرفضها فلا يمكن انطباق هذا المعيار الدوغمائي عليه.
ـ واما المعيار الرابع المتعلق بالعلاقة بين اليقينيات المركزية الاساسية وبين اليقينيات الهامشية فمن الخطأ القول بأنه كلما زادت درجة الاعتماد على اليقينيات الهامشية كلما زادت درجة الدوغمائية لأن العبرة ليست في الاعتماد على اليقينيات الهامشية بل العبرة هي في الاعتماد على يقينيات مستندة الى دليل او غير مستندة الى دليل. فالدليل هو المعيار في عدم دوغمائية من يعتمد اليقينيات الهامشية المستندة للعقل والمنطق او دوغمائيته في حالة انعدامه او ضعفه.
ـ واما المعيار الخامس: (تكون بنية معرفية ما دوغمائية أكثر فأكثر كلما كان منظورها الزمني موجهاً بشدة نحو نقطة بؤرية أو محرقية: أي ان الحاضر محتقر باستمرار لصالح المبالغة بشأن الماضي (مفهوم العصر الذهبي) أو المستقبل (اليوطوبيا = لحظة المستقبل البعيد الذي تتحقق فيه الاحلام الوردية) ) ، فلا توجد في الاسلام المحمدي رؤية تفيد بوجود عصر ذهبي ماضٍ لأننا نعلم حجم الظلم وغصب الحقوق التي جرت على المسلمين منذ ظهور الاسلام ولحد الان من قبل الحكومات الجائرة المتلقبة بالخلافة. كما انَّه لا يوجد في الفكر الشيعي اي مفهوم لأحتقار الحاضر بل على العكس فالفكر الشيعي يحترم حاضر الانسان ويدعو لتحسينه وبناءه واعمال فريضة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر فيه لغرض اصلاحه او المحافظة عليه من التقهقر نحو الرذيلة والمعصية على جميع المستويات. ومن مظاهر احترام الحاضر هو قيام الثورة الاسلامية وانتشار مفهومها بين المسلمين ، ودعم كل حركات التحرر في العالم الاسلامي من اجل صيانة حاضر الامة وتطويره والرقي به في نفس وقت شيوع مفهوم الانتظار للفرج وللمستقبل المشرق. اذن لا ماضٍ ذهبي ولا حاضر محتقر في الاسلام المحمدي بل حاضر ناهض لمداواة جراح الماضي والتمهيد لظهور واستقبال الامل المشرق.

 

هذه هي الدوغمائية بأركانها الثلاثة وبمعاييرها الخمسة وقد بيّنا كيف ان رؤيتنا الاسلامية لا تتطابق معها. فليست هناك دوغمائية عند الشيعة الامامية بل هناك ادلة عقلية ونقلية متواترة وصحيحة انشأت فكرهم ومنهجهم المتسامح في الحياة وادت الى رسوخهم في العقيدة.

 

 

نبيل محمد حسن


14 juin 2012

من إشكاليات دعوى المثقف المستقل

بسم الله الرحمن الرحيم

حينما يحاول الحداثيون ايجاد مفهوم للمثقف فان مدار ما يذكرونه يتمحور حول استقلاليته الفكرية وان لا يكون تابعاً لآيديولوجيةٍ ما ! غير ان مفهومهم هذا له جانبان سلبيان فمن جهة نجد أنّه مفهوم غير واقعي ومن جهة اخرى وجدنا ان له افرازات خطيرة تهدد وعي المثقف وادراكاته الفكرية.

فمن افرازات مفهوم "المثقف المستقل" هو أن يقوم بتفسير الدين لطلب معرفة الاحكام الشرعية وفق رؤيته الخاصة ومعارفه غير المتخصصة بينما معرفة الاحكام الشرعية تتطلب تخصصاً دقيقاً يقوم به الفقهاء عادةً وهو تخصص مبني على عدد من العلوم ابرزها علم الفقه وعلم أصول الفقه وعلم الحديث والنظريات الرجالية المعتبرة ويسبقها اتقان مجموعة من العلوم النحوية والبلاغية والمنطقية عبر مراحل دراسية متعاقبة ... ولا ننسى ان دور الفقهاء التخصصي قد اقره القرآن الكريم بقوله تعالى في سورة التوبة:

((وَمَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)).

ولكم ان تتصوروا كمية ونوعية الاخطاء التي سيقع فيها "المثقف المستقل" نتيجة إِعمال رأيه في آيات الاحكام والاحاديث الشريفة دون الرجوع للمتخصصين من الفقهاء.

ومن افرازات مفهوم "المثقف المستقل" تبني بعض المثقفين لأفكار يخالفون بها المألوف والمعروف من المعلومات التاريخية أو التقييمية أو الوصفية أو الادائية ، مثلا يقول احدهم ان ابن رشد لم يكن فيلسوفاً ويقول الآخر ان عبد الباسط عبد الصمد لم يكن في قمة اداء القراءة القرآنية من حيث المقامات وفنون التجويد أو على الاقل احد قمم هذا الفن ، وإنَّ علي الوردي لم يكن ذو منهج علمي في كتاباته عن علم الاجتماع وانما استفاد من لغته الشعبية في الانتشار بين الناس ! وان كتاب فلسفتنا الشهير هو نتاج مرحلته ولم يعد يصلح كواجهة فلسفية اسلامية !! الى غيرها من الدعوات الاعتباطية المماثلة ...

ان دعوى كون البعض من اولئك العمالقة في فنونهم لم يكونوا يستحقون تلك المنزلة التي تبؤوها وانما استفادوا من ظروف معينة او ارهاصات معينة دفعتهم الى تلك المكانة المتقدمة في مجالهم هي دعوى جريئة وقد تكون وقحة ، ورغم اني لا اتفق مع علي الوردي في كتاباته ولا اجدها متميزة سوى في سرد وتوثيق القضايا الاجتماعية وليس في قضاياه التحليلية فمن المستبعد ان يمكن وصف منهجه بأنه مخالف للبحث العلمي ، واما ابن رشد فلا ادري كيف يتجرّأ شخص ويسلب عنه كونه فيلسوفاً بل احد اشهر الفلاسفة المسلمين الاوائل الى جانب الفارابي وابن سينا بدون ان يكون متأثراً باطلاقات خصوم ابن رشد من انصار تهافت الفلاسفة والسلفية العمياء ...

إن اي فكرة معتبرة يتبناها المثقف يكون لها بحسب طبيعتها مرتكزان هما الأدلة العقلية والمنطقية وما يتفرع عنها من دلائل وحجج ، و الرجوع الى الخبراء في فنونهم والمتخصصين في تخصصهم لينهل من معينهم. أما "المثقف المستقل" فيتبنى هذه الاطلاقات الحادة والغريبة ويسعى للتفرد في تبني نمط فكري اعتباطي غير محكم لدرجة ان الاعتباطية والتشتت تصبح جزءاً من شخصيته الثقافية في محاولة منه لأثبات استقلاليته الفكرية ! نعم المثقف يجب ان يكون مستقلاً في ثقافته ورؤاه بمعنى ان تكوينه لرؤاه ومتبنياته الخاصة وفق تفكيره ورؤيته الشخصية القائمة على العقل والمنطق والتخصص لا ان يبنيها على خيارات اعتباطية بعيداً عن المنطق والحجة والدليل والتخصص ! فهل ان رجوعه لأهل التخصص سيسلبه الشعور بالاستقلالية مع ان رجوعه هذا سيزيده ثقة بصحة النتائج التي يتوصل اليها ! اليس تفرد "المثقف المستقل" بقراراته الفكرية الطائشة من حيث عدم استنادها الى المنطق والدليل والحجة سيؤثر على عموم منهجه ومعارفه التي يكتسبها !

والاشكال الاخر الذي تثيره دعوى "المثقف المستقل" هي انها دعوى ليس لها واقع عملي فلا يمكن سلب الانسان عن ان يكون صاحب موقفٍ معين من الحياة وفي الحياة ، والاستقلالية يعني بها اهل الحداثة منعه من تبني عقيدة وآيديولوجية حتى لو كان مقتنعـاً بهـا من خـلال رؤيتـه الشخصيـة وافكاره وادلتـه العقليـة والمنطقيـة المعتـبرة !

فهل يمكن ان نتخيل انساناً لا يكون له موقف محدد تجاه اي شيء وتجاه كل شيء ؟! فهناك الانسان صاحب الآيديولوجية الدينية وهناك صاحب الآيديولوجية اليسارية وهناك صاحب الآيديولوجية الحداثية وهناك من تكون له آيديولوجية سياسية معينة كالعلمانية او الثورة الاسلامية او البروليتارية ... فليس هناك انسان ليست لديه موقف أو عقيدة (آيديولوجية) او طريقة محددة او منهجاً فكرياً عاماً في الحياة ، وحتى الناس ابناء القبائل والعشائر فآيديولوجيتهم قبلية وعشائرية ولهم مفاهيمهم المحددة ونمط التفكير والقيم الخاصة بهم. اذن يتساوى جميع الناس بسطائهم ومثقفيهم وعلمائهم في العيش وفق قواعد فكرية واجتماعية معينة وخيارات محددة فلماذا يستكثرون على المثقف ان يكون كذلك !!؟

إنَّ مفهوم "استقلالية المثقف" هو الحصان الذي يمتطيه الحداثيون لاقتحام عقل المثقف وسلبه خياراته العقائدية ومنعه من تكوين رؤاه استناداً الى خياراته الدينية ، فنراهم لا يعترضون على وجود مثقفين ماركسيين او ليبراليين ويعترضون فقط حينما يكون هناك مثقفون اسلاميون فهم يعتبرون الاسلام آيديولوجية لا يصح ان يتصف بها المثقف فلماذا لا تثير الماركسية والليبرالية والعلمانية مكامن الفزع عند الحداثيين ولا يُستثارون الا حينما يبني المثقف افكاره وفقاً لرؤاه وعقيدته الدينية. السبب واضح هو ان خصومتهم هي مع الدين حصراً !

هل قلت آنفاً ان الحداثيين يستخدمون مفهوم "استقلالية المثقف" كحصان طروادة لاقتحام عقل المثقف ؟ نعم ذكرت ذلك ولكني لم اذكر طروادة بل ألمحت لها ... نعم طروادة وحصانها الشهير الذي فتك بها كما يفتك بعقل المثقف تبنيه للموقف المستقل. فهل يسمح لنا الحداثيون استيحاء فكرة من التاريخ واسقاط ظلالها على الحاضر كفكرة حصان طروادة ام اننا يجب ان نقطع كل اواصرنا بتاريخنا وتراثنا وديننا ! هل يجب ان ننظر للتاريخ باعتباره حدث في زمانه لا يصح ان نستفيد من آثاره في واقعنا المعاصر ؟! ام يجب ان نحول التاريخ الى تراث يقبع في المتحف نتفرّج عليه كلما اردنا النزهة او يتفرج عليه السائحون الباحثون عن الرفاهية والمتعة ! فهل اصبح تاريخنا فقط محط رفاهية ومتعة لنا وللآخرين ؟! وماذا عن الحوادث السوداوية والدموية في تاريخنا هل هي ايضاً يمكن ان تجلب الرفاهية ودافعاً للنزهة والمتعة عبر زيارة المتاحف !!

وهل يمكن ان نحول الدين الى تراث فكري هو ايضاً ونلحقه بالسلسلة التي تبدأ كما يتوهمون من الطواطم ولا تنتهي الا في المتحف ! هل يمكن ان يتحول القرآن الكريم الى نص تراثي كملحمة گلگامش تثير التعجب والدهشة لقدرة الانسان على انتاجها في زمانها ! هذه هي دعوى الحداثة .. فالمثقف المستقل يمكنه بكل سهولة ان يقول ان القرآن كملحمة گلگامش عبارة عن نص غير مقدس بنفس طريقة قوله ان ابن رشد ليس فيلسوفاً وان علي الوردي ليس علمياً في علم الاجتماع وان سمفونيات بيتهوفن ليست معزوفات رصينة !! نعم يمكن للمثقف المستقل ان يقول اي شيء عن كل شيء ولكن حينما يتحول النزاع الى الحجة والدليل لن يكون المثقف المستقل إلا عاجزاً أمام غيره من المثقفين المستندين في فكرهم وخياراتهم العقل والمنطق والتخصص. نعم لنا استقلاليتنا الفكرية بتبني خياراتنا الفكرية والعقائدية ولكن ان تكون مستندة الى دليل معتبر لا الى دليل اعتباطي او منهج التقاطي وعشوائي بدعوى اننا مستقلون ولا نخضع لفكر آخر ! كما اننا مؤهلون لأن نكون نحن المثقفون من اهل الاختصاص ولكن ينبغي ان نكون هذا فعلاً عن دراسة وجد ومثابرة لا على سبيل الجدال والدعوى الزائفة غير الواقعية.

إنَّ اهل الحداثة ينشرون مفهوم "المثقف المستقل" في المجتمعات الاسلامية من اجل انتزاع المثقفين عن دينهم وعن التعلق الفكري به وايجاد جو ثقافي يرفض أن تكون هناك امتدادات فكرية عقائدية في المجتمع عبر المثقفين الذين يشكلون حلقة الوصل بين علماء الدين والناس ، وهذه الحلقة هي التي تقلقهم فيعملون على فصمها.   

اذن من المهم أن يكون المثقف على حذر من معايير الحداثيين المزدوجة حينما يسمحون للآخرين بتبني مواقف آيديولوجية ماركسية او ليبرالية ويتخلى هو عن تبني مواقف آيديولوجية اسلامية لعدم سماحهم له بذلك.

 


 نبيل محمد حسن

Publicité
Publicité
دار المثقـف الاسلامـي
Publicité
Archives
Publicité